أهي سخرية القدر أم هي اهانة جديدة لاحد ضحايا مظلمة براكة الساحل الشهيرة أم هي احدى عجائب عدالة الثورة ورد الاعتبار التي حملت امرا غريبا قضى بتمكين ملازم اول آمر سرية دبابات سابق كان متفوقا في كامل المراحل التعليمية والمهنية بدليل الشهائد التي بحوزته من خلال تحيين المسار بوظيفة «منظف حافلات» ... أجل منظف حافلات وهذا ليس احتقارا للمهنة ... قضية الحال غريبة في ذاتها وفي توقيتها وفي مدلولاتها ولعل البعض يحسبها من النوادر غير الحقيقية للمزاح أو التسلية ولكنها مع ذلك حدثت بالفعل ومؤخرا ايضا واضطر المعني بقضية الحال الذي كانت صدمته كبيرة بعد سماع خبر التوظيف الى التحول الى المستشفى العسكري بقابس بعد ارتفاع ضغط الدم لديه لما اعتبره إهانة وظلما يتعرض لهما مرة أخرى. لننطلق من البداية لنشير الى ان المعني بقضية الحال هو الملازم اول بالجيش الوطني سابقا البشير بن منصور الذي التحق بالاكاديمية العسكرية بفندق الجديد مباشرة بعد حصوله على باكالوريا رياضيات وعلوم واجتيازه بنجاح كبير الاختبارات النظرية والبدنية وقضى 4 سنوات بالاكاديمية العسكرية شعبة رياضيات فيزياء والكترونيك وتخرج يوم 30 جوان 1983 برتبة ملازم اول حاصلا على الجائزة الاولى في الشعبة المذكورة وتابع بنجاح وتفوق كبيرين التربص التطبيقي في سلاح المدرعات سنة 1984 وتابع بنجاح وتفوق ايضا تربص آمري السرايا في سلاح الدروع سنة 1990. وكان الملازم اول البشير بن منصور من اهم العناصر الرياضية بالاكاديمية العسكرية في اختصاص العدو 5 الاف متر وشارك في عدة مسابقات وماراطونات ومنها سباق نصف الماراطون يوم 27 افريل 1983 قطع خلاله مسافة 4, 20 كلم في ساعة و16 دقيقة و33ثانية كما انه طيلة المدة التي قضاها بالجيش لم يتحصل في مادة الرياضة على عدد يقل عن 20 على 20 . وبعد تخرجه التحق الملازم اول البشير بن منصور بالفوج 31 للمدرعات بقابس سنة 1986 بخطة آمر فصيل وتحصل في آخر تلك السنة خلال مناورة الفوج على كأس أحسن دبابات في الرماية وزيادة على مهمته الاصلية كآمر فصيل كان ضابط رياضة بالفوج وفي نفس الوقت عنصرا من عناصر هذا الفريق وخلال فترة اشرافه تحصل الفوج 31 للمدرعات على معظم الكؤوس خلال المباريات الرياضية بين الافواج كما كان الفوج 31 يعد من احسن الافواج بالجيش تحت قيادة الرائد عبد العزيز السالمي الذي قام بتعيين الملازم اول البشير بن منصور كآمر سرية بأمر إداري عدد 1640 / ف 31 بتاريخ 15 جوان 1986 وكان بالتالي اول ضابط من دورته يتولى قيادة السرية. وكان أبناء دورته يعملون بنفس الفوج كآمري فصائل وهم الآن برتبة عميد وعقيد. وحافظ الملازم أول البشير بن حسن على التميز وحسن جاهزية السرية تحت قيادة 3 آمري افواج متتالين وقد وقع عليه الاختيار لتمثيل سلاح الدروع في مناورة اللواء الاول بقابس بالذخيرة الحية سنة1989 تحت اشراف وزير الدفاع حينها عبد الله القلال وآمر الفوج وقتئذ الرائد الحبيب اسماعيل. وقد أشاد الحضور آنذاك بالمنصة الشرفية باداء الملازم اول البشير بن منصور وهو حديث العهد بالقيادة وتبعا لذلك التفوق كان على رأس قائمة الترقية لرتبة نقيب لكن الغريب انه تمت ترقية آمري الفصائل من ابناء دورته ولم تقع ترقيته والحال أنه آمر السرية وهو ما تاسف له آمر الفوج الذي اطلعه على ملفه المهني حيث تضمن عبارة «يعتبر الضابط المثالي بالجيش». كما ان العميد آمر اللواء الاول بقابس ارسل تقريرا الى رئيس اركان جيش البرّ عزمي محجوب تحت عدد 583 / ف1 / ل 1 لسنة 1989 موضوع ارتسامات حول جدول الترقية خصه فيه بالفقرة التالية «لم يقع مراعاة الترتيب لترقية الضباط كما وضعه اللواء حيث ان ترتيب ترقية ضباط اللواء وخصوصا الى رتبة نقيب جاء مختلفا تماما عن الترتيب الذي وضعناه ونتج عن ذلك اضطراب في اولوية الجدارة للترقية وتسبب ذلك في حرمان البعض من الترقية واستفادة آخرين منها رغم انهم اضعف عددا ومتأخرون في الترتيب التفاضلي ونخص بالذكر الملازم اول البشير بن منصور من الفوج 31 للمدرعات الذي لم تشمله الترقية وشملت من هم اقل جدارة منه ولقد حصل الاضطراب في الترتيب التفاضلي الذي اعده اللواء ...» وفي جلسة جمعتنا بالملازم اول البشير بن منصور قال لنا انه وقع آنذاك استدعاؤه من طرف امير اللواء محمد الهادي بن حسين الذي قال له بالحرف الواحد «استدعيتك لانك ضابط متميز» فقال له البشير بن منصور «رغم انك تشهد بانني متميز فانه لم تقع ترقيتي ولا بد ان هناك سببا أو خللا ما حال دون ذلك ومن هنا فانني التمس منكم توضيحه لي حتى أقوم باصلاحه وتفاديه مستقبلا». وواصل البشير بن منصور حديثه قائلا انه أصر آنذاك على معرفة السبب فاذا بامير اللواء يطاطئ رأسه الى الاسفل ويكشف له السبب بالقول «ان زوجتك تغطي رأسها». وكان ذلك أواخر 1990 ويبدو ان تلك الحادثة شكلت بداية رحلة المعاناة للملازم اول البشير بن منصور الذي قال لنا انه بعد بضعة اشهر من تلك الحادثة ولما كان في رخصة تم استدعاؤه لكي يمثل الفوج في مباراة وطنية للرماية فاذا به يجد نفسه مودعا بدهاليز ادارة أمن الدولة بوزارة الداخلية «شبع» خلالها وطيلة 40 يوما بلياليها بمختلف صنوف التعذيب والتنكيل والمس من الاعراض والانتهاكات ثم اودع السجن المدني 9 افريل واثر ذلك وقع منحه اجازة خاصة مفتوحة من قبل ادارة الامن العسكري هذا نصها «يمنح الملازم اول البشير بن منصور رقم 3875 / ض اجازة خاصة ابتداء من 28 اوت 1992 الى غاية اشعار آخر» واضاف محدثنا انه تمّ اعلام جميع الافواج ببرقية في الغرض كان نصها بالفرنسية: «le lieutenant Béchir ben Mansour est renvoyé pour mauvaise manière de service» وأضاف البشير بن منصور أنّ سنوات الظلم مرت عليه طويلة كئيبة دمرت صحته واضطرته الى ان يصبح بائع خضر متجولا لضمان قوت عائلته وأنه بعد الثورة كان يعيش على أمل الانصاف ورد الاعتبار قائلا في هذا الاطار: «جاءت الثورة وصدر العفو بالمرسوم عدد 1 بتاريخ 19 فيفري 2011 بامضاء الرئيس المؤقت فؤاد المبزع بعد اقتراح من الوزير الاول وقتئذ محمد الغنوشي ولم تنتبه المؤسسة العسكرية آنذاك الى خطورة هذا المرسوم عند تفعيله على منظوريها ... وقد قامت كل الوزارات باحتضان ابنائها الا وزارة الدفاع التي واصلت تخليها عن عسكريي «براكة الساحل» بما يعيد الى الاذهان تخليها عنهم سنتي 1991 و1992 رغم اعتذار المخلوع لهم يوم 23 جوان 1991 على لسان عبد الله القلال الذي اعلمنا بانها كانت مسرحية مفتعلة وباطلة وبلّغنا تهاني رئيس الجمهورية بعيد الاضحى مؤكدا لنا تمكين عسكريي «براكة الساحل» من رخصة استثنائية لمدة شهر يعودون بعدها الى سالف وظائفهم». ويواصل الملازم اول البشير بن منصور حديثه الينا صحبة عدد من زملائه ضحايا «براكة الساحل» مثل الرائد المتقاعد الهادي القلسي بالقول «لقد اكتشفنا ان الزج بنا في قضية ما يسمى «براكة الساحل» كان من خلال قائمة اسمية سلمها امير اللواء احمد شابير مدير الامن العسكري الى جمعية انصاف قدماء العسكريين في شهر مارس 2011». وتواصلت المعاناة والتأخر في تسوية الوضعية رغم الوعود الكثيرة والسخية في عديد المناسبات ومنها لقاء يوم 14 اكتوبر 2011 بنادي الضباط بالبلفيدير حضره حوالي 70 من الضحايا تحت اشراف وزير الدفاع آنذاك عبد الكريم الزبيدي والجنرال رشيد عمار حيث تم تبشير الضحايا بإعداد آلية لجبر الضرر والتعويض عما فات وان المطلوب هو الصبر لبعض الايام ثم تدخل الناطق الرسمي للحكومة ووزير حقوق الانسان والعدالة الانتقالية يوم 8 فيفري 2012 ثم تقديم رئيس الجمهورية محمد المنصف المرزوقي يوم 23 جوان 2012 وهو القائد الاعلى للقوات المسلحة اعتذار الدولة لضحايا وعائلات مظلمة «براكة الساحل» واعدا بتسوية شاملة وحفل رد اعتبار بقصر قرطاج وهو ما تحقق يوم 10 ديسمبر 2012 بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان حيث اوفى رئيس الجمهورية بوعده وكرم الضحايا وقام بتوسيمهم وسام الجمهورية من الصنف الرابع ... ومع كل كما جرى فإنّ الجراة غابت في اتخاذ القرار السياسي المنصف للضحايا وتعللت وزارة الدفاع بافتقادها للسند القانوني. وأضاف الملازم اول البشير بن منصور انه بعد حصوله على شهادة عفو اتصل في شهر جوان 2013 بلجنة الانتدابات المعينة من طرف رئيس الحكومة لتفعيل القانون عدد 4 لسنة 2012 بتاريخ 22 جوان 2012 بالنسبة للمتحصلين على شهادة عفو فأفاده احد اعضاء اللجنة بانه من غير الممكن اعادته الى سالف عمله بالجيش الوطني وبما انه لم يبلغ 60 سنة من العمر حتى يحال على التقاعد فإنه بالتالي سيتم توظيفه بمستوى شهادة الباكالوريا باحدى الوزارات الاخرى. وقال محدثنا انه رفض ذلك واقترح عليهم (تطبيقا لما جاء بالقانون آنف الذكر والذي ينص على انه عند تعذر انتداب المتحصل على العفو يتم انتداب احد افراد عائلته) توظيف ابنته المتخرجة بشهادة باكالوريا زائد 5 سنوات تعليم عال في اختصاص الاعلامية وذلك للاستجابة لاحد استحقاقات الثورة التي صنعها الشباب وهي التشغيل. وواصل البشير بن منصور حديثه ان طلبه جوبه بالرفض الى جانب الوعود بالاحالة على التقاعد مع التنفيل ومن هنا قام بسحب ملفه وعاد الى امتهان بيع الخضر في «نصبة» بسوق شعبي وهي مهنته منذ 1992 والى حدّ الآن. الشغل المتوفر «منظّف حافلات» واضاف محدثنا: « يوم 15 جانفي 2014 اتصلت بي رئيسة مصلحة الموارد البشرية والتكوين بالادارة العامة للنقل بقابس وطلبت منّي الحضور بمكتبها قصد توظيفي فاستبشرت خيرا وعمت اجواء الفرحة عائلتي وفي الرابعة مساء من نفس اليوم كنت في مكتب رئيسة المصلحة ووجدت هناك مواطنا آخر متحصّلا هو الاخر على شهادة عفو وقالت المسؤولة انه في نطاق تفعيل مرسوم العفو سيقع توظيفنا انا والمواطن الثاني كمنظّفين للحافلات بقابس وأن هذا ما لديها. ولئن قبل الرجل بالعمل وتسلم الوثائق المطلوبة فانني رفضت وأطلعتها على كل شهائدي وطلبت منها مدّي بوثيقة تثبت توظيفي كمنظف حافلات لكنها رفضت ذلك وقالت انها ليست سوى عنصر مكلف بتنفيذ التعليمات وطلبت منها اعلام الوزارة الاولى برفضي لهذه الوظيفة وبأنني لن اقبل بأية وظيفة لا تناسب مستواي التعليمي وشهائدي وتركت لها وثيقة تثبت انني كنت ضابطا بالجيش برتبة ملازم اول. وعند خروجي من مكتبها شعرت بانهيار كبير وتم نقلي الى المستشفى لتلقي العلاج لا سيما أنني مصاب بمرض مزمن هو ارتفاع ضغط الدم جراء سنوات التنكيل والقهر والتعذيب ويوم 17 جانفي الجاري تم نقلي مجددا الى المستشفى العسكري بقابس للعلاج كما قمت باعلام رئيس الجمهورية ووزارة الدفاع وجمعية انصاف قدماء العسكريين والرائد المتقاعد الهادي القلسي من خلال رسالة مفتوحة يوم 16 جانفي الجاري ولم تتحرّك الى الآن سوى جمعية انصاف التي ارسلت تقريرا في الموضوع الى رئيس الجمهورية من خلال امير اللواء المستشار العسكري كما قام الرائد المتقاعد الهادي القلسي حسب امكاناته بتبليغ المعلومة الى جمعية انصاف ورئاسة الجمهورية وبعض اعضاء المجلس الوطني التأسيسي واحد وزراء الحكومة». وختم الملازم اول البشير بن منصور حديثه قائلا «الشعب دفع اموالا طائلة من دمه وعرقه لضمان تكوين يؤهلني للقيام بوظائف عليا وحمل السلاح للدفاع عن الوطن وليس لحمل مكنسة بعد السنة الثالثة للثورة رغم احترامي لمثل هذه الوظائف والقائمين بها والاصل أن أعود الى سالف عملي وإن تعذّر ذلك احالتي على التقاعد وانا اعتبر ان ما حصل ليس إهانة لشخصي بقدر ما هو اهانة لكل المنتسبين إلى وزارة الدفاع دون استثناء».