k التونسية (تونس) في سوق الصبّاغين بقلب العاصمة ،بالقرب من متحف «بن عبد الله» العريق والذي يزوره عديد السياح من شتى الجنسيات ،تقطن عشرات العائلات في مدرسة مهجورة تسمّى «مدرسة بن عبد الله» وكذلك وسط مركز أمن مهجور آيل للسقوط حيث تحوّلت المكاتب وغرف الإيقاف إلى «بيوت» تؤوي عدة عائلات...في هذا المكان إتّخذت كلّ عائلة قسما أو «جناحا» سواء من المدرسة أو من المركز ،غرفة لكل عائلة هي في ذات الوقت المطبخ وغرفة النوم وقاعة الجلوس...هنا ينام الأبناء وأغلبهم في عقدهم الثاني وشقيقاتهم البنات وأغلبهن مراهقات في نفس الغرفة أو بالأحرى في نفس «القسم»....هنا تشترك عديد العائلات في بيت راحة وحيد كان في الأصل مخصصا للتلاميذ ، تؤمّه النساء والرجال ويضطر كل شخص منهم إلى إنتظار دوره وعلى البعض أن يستيقظ باكرا قبل أن يطول طابور المنتظرين دورهم... حنفية ماء مشتركة ،وحياة بدائية خلنا أننا ودعناها مع ثورة «الكرامة» رغم أنه لا يفصل بين هذه العائلات وقلب العاصمة سوى بضعة أمتار... جدران تآكلت، وأسقف تكاد تسقط على ساكنيها ،غرف بلا نوافذ ونوافذ بلا بلّور، رطوبة وتراب ومياه الأمطار تنغص حياة أغلب السكان... نقص في الغطاء والأثاث وتقريبا في كلّ مقومات العيش الكريم... «التونسية» زارت هذه العائلات وعاينت وضعا صعب التصديق لكنه موجود... وضع ذكرني وأنا أجول بنظراتي في المكان واستمع الى شكاوى أهل المكان بما طالعته عن المعذبين في الأرض في رواية الأديب المصري الشهير طه حسين. في ساحة المدرسة كانت الملابس تتدلى من الحبال، تقدمنا بخطوات بطيئة نحو الأقسام ،تدلت بعض الأدباش من فوق الحبال وأخرى من النوافذ... لقاؤنا الأول كان مع «فاطمة العيّادي»من مواليد 8 فيفري 1963،فاطمة لديها أكثر من 14 سنة وهي تعيش في احدى غرف مركز أمن سابق، هنا في غرفة وحيدة تطلّ على نهج الصباغين يعيش 7 أفراد ،الأب والأم والأبناء رامي ومروان ورحمة ومريم وزينب.. تقول فاطمة: «أعيش في هذه الغرفة رفقة زوجي وبناتي وأولادي، وبحكم ظروف الحياة الصعبة فقد عجزت عن تأمين الدراسة لأبنائي فسلّمت ابنتي «رحمة» إلى قرية الأطفال ب «قمرت» وقد درست في سليانة وكانت تتقاضى 100 دينار وهي منحة مسندة من الدولة لكن بمجرد أن توقف صرف المنحة فقد إضطرت «رحمة» إلى الإنقطاع عن الدراسة وعادت لتعيش معي في هذه الغرفة الوحيدة». وأضافت : «سأقابل قاضي الأسرة لأطلب منه أن تدرس إبنتي بإحدى مدارس التكوين المهني وإلا فإنها مهددة بالضياع». كانت «رحمة» نائمة ويبدو أن المرض أنهكها ،كانت تسعل من حين إلى آخر، بينما تناثرت الأدوية حولها في كل مكان ... تدخلت السيدة «فاطمة» والتي بدورها كانت تعاني من نزلة برد قوية لتقول : «عندما نمرض لا نجد الدواء في المستوصف وعادة ما نلجأ إلى العلاج ببعض الأعشاب أي إلى الدواء «العربي» لأننا ببساطة لا نملك ثمن دواء باهظ الثمن». في الغرفة يوجد مطبخ أو ما يشبهه يتكون من موقد قديم وبجانبه خزانة متواضعة تكدست بها الأدباش وكانت الملابس فوق الكراسي،وفي كل مكان ،كما وضعت أغلب الأواني في صناديق وتناثرت هنا وهناك. تنّهدت «فاطمة» وقالت: «إضطرّ إبناي «رامي» (27 سنة) و«مروان» (25 سنة) إلى العيش في غرفة بنهج الصباغين منحتها إياهما سيدة على وجه الإحسان وهما يقطنان هناك بلاعمل ولا أي مورد للرزق واحيانا أمنحهما دينارين مصروفهما». وأضافت: «عملت في سوق «لافيات» وكنت أبيع الخضر والغلال،كنت أستيقظ منذ الساعات الأولى من الصباح لأجلب الخضر من بئر القصعة وأحملها على ظهري ولكنّي مرضت وتدهورت ظروفي الصحية وزاد مرض الأعصاب في تأزم وضعي الصحي فتخليّت عن بيع الخضر». ومضت فاطمة قائلة: «ذات يوم إنهار عليّ السقف» في هذه الغرفة ومن ألطاف الله انّي وإبنتي نجونا من موت محقق وقد ساهم أولاد الحلال في ترميمه، ولكن ظروف حياتنا مازالت صعبة». وأكدت فاطمة أن أغلب السكان يشتركون في بيت الراحة الوحيد وأنهم لذلك عادة ما يقفون في الطابور وقالت علينا الإنتظار ليحلّ دورنا أو الإستيقاظ باكرا لقضاء حاجة بشرية. وقالت : «أغلبنا أصيب بعدة أمراض من جراء البكتيريا في بيت الراحة المشترك». وأشارت فاطمة إلى أن الجرذان الكبيرة منتشرة بكثرة في هذا المكان بسبب انفتاح قنوات تصريف المياه والأوساخ. وقالت ان نقص التهوئة وكثرة الرطوبة تسببا في مرض عديد الأشخاص بالحساسية وضيق التنفس... وقالت فاطمة : «غرفتي تطلّ على هذه الجهة(واشارت الى سوق الصباغين) وهنا تتم صباغة الملابس ولكن في هذه البطحاء يتجمع العديد من المنحرفين ليلا ومنهم مستهلكو «الزطلة» الى جانب السكارى... وأضافت: «نضطر كعائلة إلى سماع الكلام البذيء والألفاظ النابية ويكون ذلك على مسمع من بناتي وطفلتي الصغيرة التي لم تتجاوز الثماني سنوات ،أحيانا نطلب منهم الإنصراف أو على الأقل إحترامنا ولكن...». وواصلت محدثتنا سرد معاناتها لتقول : «لقد وعدتني السلطات ببيت يؤوينا ويلم شملنا وإن شاء الله يتحقق هذا الحلم ،لكن مطلبي الثاني هو رخصة «كشك» فقد مرضت من فرط البطالة لأنني تعودت على العمل وإعالة أسرتي وقد أودعت الوثائق بوزارة الداخلية ومازلت أنتظر الموافقة»، وأشارت فاطمة إلى انّ هذه الرخصة ستحمي أولادها من الإنحراف ومن العودة إلى «السجن» ،وأضافت أنها ستؤمن لهم لقمة العيش بشرف وستحفظ كرامتهم كعائلة ،وقالت : «أملي التسريع في منحنا الرخصة لأنها ستنقذ عائلتي من الضياع». . وأكدت أن زوجها يعمل في مأوى بالقرب من مستشفى شارل نيكول وان ما يتدبره لا يفي بمستلزمات الحياة الصعبة. حكاية أم تعيش بعيدا عن أبنائها بجانب غرفة فاطمة توجد خالتي «السيدة» إمرة مسنّة تبلغ من العمر 74 سنة،كانت نائمة عندما طرقنا الباب ،رحبت بنا وغسلت وجهها في إناء. وتعيش خالتي «سيدة» في غرفة بلا نافذة حيث يوجد إطار حديدي بلا بلور. غرفة خالتي «السيدة» هي إحدى غرف الإيقاف بمركز الشرطة سابقا قالت: «عندما أضع «كرذونة» على النافذة سرعان ما تزيلها الرياح لذلك أكون عرضة للبرد والأمطار». كان السقف عاليا جدا ومن الصعب الوصول إلى النافذة. قاطعتنا لتقول: «وعدوني بوضع نافذة لكن اغلب الوعود كانت زائفة...» سألناها عن الأبناء فتنّهدت وقالت: «كنت أعيش في ليبيا وأعمل في مجال التجارة ،كانت ظروفي المادية جيدة، ولدي بنتان وولد ولكن بعد وفاة زوجي وبحكم الظروف المعيشية الصعبة فقد تخليت عن أولادي، إبني الآن عمره 46 سنة وظروفه صعبة فهو تارة يعمل وأخرى لا وهو الآن يعيش بمفرده في مكان آخر. وقالت : «عاشت إحدى بناتي عند جدتها ولكني لم أرها منذ عدة سنوات وهي لا تعرف أي شيء عني لأنها تعتبر أني تخليت عنها عندما كانت بحاجة إليّ ،أما شقيقتها الأخرى فقد عاشت معي في هذه الغرفة إلى أن تزوجت». وأضافت: «بدأت أفقد البصر ولم أعد أميّز بين الأشياء جيدا ،فضغط الدم تسبب لي في عدة أمراض مزمنة وبالكاد أملأ الماء من الحنفية المشتركة أما الطعام فأحيانا أطبخ وأخرى لا». وقالت: «تخليت عن أبنائي وأغلب الأجوار هنا لا يعرفون انه لدي أبناء، لقد تخليّت عنهم عندما كانوا في أمّس الحاجة إليّ، فلماذا ألومهم الآن؟». وأضافت : «صحيح أشتاق إليهم وأتذكرّهم يوميا ولكن حكمت علينا الظروف القاهرة بالموت البطيء والفراق إلى الأبد». عائلة في مكتب المركز «حسناء بن نقّة»أرملة في كفالتها بنتان (23 و18) سنة وشاب عمره 22 سنة تعيش في مكتب مركز الشرطة سابقا،جدران آكلتها الرطوبة ،مياه تقطر من السقف وقد وضعت سطلا فارغا لإستيعاب كميات الماء المنهمر منه. تقول: «أعيش هنا منذ 2002 رفقة أبنائي وهذا المكتب قسمناه إلى غرفة نوم ومطبخ وهو بالكاد يتسع لنا جميعا». وأضافت : «لقد تدهورت حياتنا مباشرة بعد وفاة زوجي في 2009 حيث كنا نسكن في بيت على وجه الكراء ب80 دينارا ولكني عجزت عن توفير معلوم الكراء». وقالت انها حاليا تتقاضى 180 دينارا جراية تقاعد زوجها مشيرة الى ان جراية مماثلة لا تفي بمتطلبات الحياة . وقالت : «لقد وعدتنا السلطات ببيت في حي «الفتح» ،يحتوي على قاعة جلوس ومطبخ وعلينا إكمال غرفة أخرى على نفقتنا ، في الحقيقة نأمل أن ننتقل إليه سريعا لأن الظروف السكنية هنا متردية للغاية ،فالقاعة بلا نافذة وليس لنا أية تهوئة ،كما ان إبني عاطل عن العمل وإبنتي كذلك ولدي فتاة فقط تدرس». سنوات من الإنتظار ... في غرفة صغيرة بالكاد تتّسع لسرير وخزانة ...كانت أماني شابة في مقتبل العمر تجلس على فراشها وبجانبها ينام شقيقها... تقول: «تحصلت على شهادة باكالوريا علوم ،أجريت مؤخرا مناظرة في سلك الديوانة ولكن للأسف لم يسعفني الحظ»، وأضافت : «نحن نعيش في هذه الغرفة منذ 2002 ،توفي والدي واضطرت والدتي إلى العمل في المنازل لإعالتنا،تزوجت شقيقتي ولديها رضيع وقد غادرت هذه الغرفة لتعيش مع زوجها أما أنا فبقيت رفقة والدتي وشقيقي» و قالت : «منذ عدة سنوات ونحن ننتظر «الفرج» ونقلنا إلى مساكن كبقية الناس ولكن الوعود كثيرة والعمر يمرّ ولم تأت هذه المساكن». وأسرّت إلينا أماني أنها تشعر أحيانا بالخوف فالباب الخارجي غير مؤمن ولولا «الأجوار» فإن حياة أي شخص قد تكون مهددة فحتى النوافذ هشّة جدا وقد تم تغطية بعضها بلفافات من القماش. في بهو مركز الشرطة... كان «الكنتوار» الإسمنتي يقسم الغرفة وقد عرفنا ان هذا المكان كان في الأصل بهو مركز الشرطة ،هنا تعيش «خضرة» سيدة تبلغ من العمر 60 سنة، لديها أكثر من 18 سنة فيها وقد بدت أوفر حظا من جاراتها لأن لديها «بيت راحة» خاص ومطبخ ولكن الجدران والأسقف في حالة يرثى لها والفوضى تعم المكان. كان زوجها المريض والمصاب في قدمه ينام على السريرعندما تقدمنا وسط كومة من الملابس والأثاث. تقول خضرة: «الماء في كل مكان وقد حاولت إبعاد الملابس والأغطية لكي لا تطالها المياه وتبلل،كما ان الرطوبة أرّقتنا وجعلت الجدران بهذه الصورة السيئة». يعمل زوج «خضرة» في جمع البلاستيك والخبز «البايت» لكن بحكم المرض فقد لازم البيت منذ مدة. وأكدت انها كانت تعيش في الصباغين لكن إنهار عليهم المنزل ونجوا بأعجوبة فتم نقلهم الى هذا المكان على أمل تسوية وضعهم الإجتماعي الى ان مرّت عديد السنوات. مرض وألم وفقر... «سلمى طراد»إمرأة مسنّة كانت تجلس أمام بيتها ممسكة برأسها وقد وضعت عليه «ضمادة». تقدمنا منها وسألناها عن وضعها ،فصرخت وبكت من فرط الألم وقالت: «لقد سقطت على رأسي في هذا المكان(اشارت الى عتبة الباب) ...لقد نزفت ومازاد الطين بلّة أن لوحة بها مسمار سقطت على رأسي ومنذ ذلك اليوم والآلام تلازمني،قلبي ينبض بسرعة ويداي ترتعشان... ثم بدأت تبحث في كومة أوراق وقالت: «لدي دفتر علاج مجاني ...لا أدري أين إختفى»... تعيش «سلمى» رفقة إبنتها المطلّقة والتي بدورها لديها إبن يبلغ من العمر 7 سنوات ... غادرنا «مركز الشرطة» السابق الذي يؤوي عديد العائلات وبجوراه كانت مدرسة «بن عبد الله» وهي مدرسة مهجورة تمتد على عدة طوابق كانت في السابق مخصصة للدراسة وللتلاميذ المقيمين،هنا تعيش العشرات من العائلات المعوزة أيضا. 30 سنة في مدرسة «بن عبد الله» تعتبر «لطيفة الفرشيشي» من أقدم السكان في هذا المكان إذ لديها أكثر من 30 سنة،كان زوجها يحرس المدرسة، توفي تاركا في كفالتها عدة أبناء درسوا في المدرسة وتزوجوا وأنجبوا الأطفال ولم يغادروا المكان. تعيش «لطيفة» في غرفة كغيرها من نساء المدرسة، لكن بجانبها إبنها الذي تزوج وأنجب طفلين،ومن الجهة الأخرى تقطن إبنتها «سامية» وبعد طلاقها عادت رفقة طفليها لتعيش في إحدى الغرف. تقول لطيفة: «لم أتحصل على جراية وأخبروني انه لا يحق لي الحصول على مسكن لي ولأبنائي». وأضافت: «أنا لا أستطيع أن أتركهم بمفردهم في هذا المكان». وتدخلت إبنتها «سامية» لتقول: «إبني في عقده الثاني وهو حاليا في السجن فقد إتهموه ظلما في إحدى المسيرات بضرب شرطي بحجارة مما نجم عنه موته لكن أخيرا ظهر الحق فإبني بريء وسيطلق سراحه قريبا». توفي زوجي فانقلبت حياتنا ... في الطابق الثاني من المدرسة تقطن شقيقتها «أمال القناوي» تقول: «كنا نسكن بالقرب من الجامع الصغير سقط علينا المنزل فجلبتنا السلطات إلى هنا وكان زوجي يبيع الخضر والغلال في السوق لكنه توفي منذ 3 سنوات تاركا في كفالتي 5 أطفال 3 ذكور وبنتان ،لم أتمكن من العمل لأن ظهري مصاب وأعيش رفقة أولادي ولكني أرسلت مؤخرا الولدين للعيش مع جدتهما خوفا من تأثير أولاد السوء عليهما وقد شتتنا الظروف الصعبة لأننا لا نجتمع كأسرة تحت سقف واحد». وختمت أمال: «درست في هذه المدرسة ولم أكن أتخيل أن أسكن بها ذات يوم». متساكنة اخرى قالت أنها اضطرت إلى ترك طفلتها عند والدتها خوفا عليها ،وقالت ان «السرقة» موجودة حيث سرقت لها عدة اشياء والباب غير مؤمن وقالت: «كنت متزوجة من اجنبي ولكني مرضت بأعصابي وحاليا أعالج في مستشفىالرازي... حياتي هنا صعبة للغاية حيث إنفجرت علي إحدى قنوات صرف المياه»... وأكدت أنها إضطرّت إلى بناء «بيت راحة» في هذه الغرفة لتتجنب الإنتظار... جيل بعد جيل ختام جولتنا كان مع «فتحي الموفق» قضى عديد السنوات في المهجر وقد سافر «حارقا» في مراكب الموت وحكم عليه ب 15 سنة سجنا بتهمة ترويج المخدرات ،قال انه يعيش حاليا وحيدا في هذا «القسم» بعد أن هجرته زوجته التي «حرقت» بدورها إلى ايطاليا إبان الثورة ونجحت في الوصول إلى ميلانو، وعن كيفية قدومه الى هنا قال ان والدته كانت تعيش في هذه الغرفة وتوفيت في هذا المكان وهو الآن ملاذه الوحيد.