بعد الثورة تناسلت الأحزاب بالمئات وتوزّعت رخص النشاط العلني في انفجار ثوري كاد أن يوزّع على كل مواطن حزبا باسمه، يفتح به حانوته السياسي ويعرض بضاعته وقد يغلق بابه بالمفتاح متى عنّ له ذلك وما أكثر «الحوانيت» المغلَقة. طبعا لم يكن الأمر مستغرَبا في الأشهر الأولى من الثورة وكانت التوقعات تشير إلى أنّ المشهد السياسي الجديد سيلفظ تدريجيا «الحُزَيْبات» الشخصية لتستقرّ الصورة على أقطاب كبرى تدور في فلكها الأحزاب الصغيرة المتقاربة مع إحداها أيديولوجيا أو تكتيكيا. وها نحن نرى اليوم مثلا «النهضة» وحلفاءها، تجمّع أحزاب يسارية وقومية في الجبهة الشعبية والاتحاد من أجل تونس يدور في جاذبية «نداء تونس». حديثنا هنا ليس عن الأحزاب الصغيرة التي من حقّها أن تجد لها مكانا تحت الشمس وأن يكون لها صوتها المسموع، والأمثلة موجودة للتي تجتهد منها وتحاول أن تكبر تدريجيا ووجودها ضروري حتى لا تتغوّل الأحزاب الكبرى باسم الجماهيرية وكم من حزب صغير في العالم كان محدّدا لسقوط حكومة أو صعودها. في تونس، هناك صنف آخر من الأحزاب أقل من الصغيرة وهي كائنات لا مرئية هلاميّة لا أثر لها إلا عند الأزمات، هذه الحُزَيْبات الميكروسكوبية نسمع لها جعجعة و نرى طَحينَها!: مزيج من سماد استثمار الأزمات وخليط «روث» إسطبل المزايدة الفارغة وتضيف إليهما ملح الصراخ والنفخ في الأوداج حتى يُخيّل لمن لا يعرفها أنها صاحبة العقد والربط في المشهد السياسي وأنْ لا استقرار ولا حلّ من دونها. في الإمضاء على البيانات هي الأولى خاصة إذا تواجد فيها حزب كبير وفي الدخول إلى تجمّعات حزبية هي «داخلة، خارجة». الحقيقة أنها لا تتجاوز في دورها رَجْع صدى صوت «طبل» حزب كبير خَمّنَ أن لا مصلحة تكتيكية له في إبداء موقفه بوضوح من مسألة معيّنة فاختار «حُزَيْبًا» ليلعب هذا الدور مكانه وطبعا كلّ شيء له ثمن ويبقى حكرا على رئيس «الحُزَيْب» باعتباره القائد وهو كل الهياكل والقواعد تُضاف إليه عائلته المصغّرة. هذا المبدأ: جاهزون لأيّة مهمّة تحت الطلب، يساهم في توتير الأجواء ويُبعد عن السياسة منسوب الأخلاق المستوجب تواجده فيها لإنجاح أي استقرار حقيقي. كم «حُزَيْبًا» توجّه للناس؟ كم واحدا تجتمع هيئاته بصفة منتظمة اللهمّ إلا على طاولة الأكل في بيت صاحب الرخصة بين زوجته وأبنائه وتلك كل مكوّنات الحزب ؟. لمعالجة هذا التشويش والممارسات المريبة خاصة ونحن على أبواب انتخابات مرتقبة، لا بد من مراجعة شروط التمويل والمشاركة بتحديد سقف موضوعي يأخذ بعين الاعتبار حق الأحزاب الصغرى في المشاركة ويمنع في الآن ذاته «الحُزَيْبات» المجهريّة ذات المنخرط الواحد (وهو صاحب الرخصة) من لعب أيّ دور بالوكالة في الانتخابات لتشتيت أصوات الناخبين، فقط من أجل «عيون» حزب آخر وتجربة 23 كتوبر 2011 لو تمعّنّا فيها جيدا لوجدنا هذا المعطى بارزا فيها!.