بقلم: خولة الزتايقي (ماجستير في القانون العام والعلوم السياسية) كان لتونس شرف الريادة في القوانين المتعلقة بالمرأة. فقد كانت مجلة الأحوال الشخصية مكسبا ثوريا للمرأة التونسية لما نصت عليه من حقوق وما وفرته من حماية لها، كما كانت أولى القوانين الصادرة بعد الإستقلال و هو دون ريب تعبير واضح وجلي عن إرادة مؤسسي الجمهورية التونسية الناشئة حديثا وقتها في النهوض بالمرأة والرفع من مكانتها وتكريس حقوقها وإرساء التوازن داخل الأسرة. و لعل أهم تنقيح للمجلة تمثل في القانون عدد 74 المؤرخ في 12 جويلية 1993 الذي أُلغى واجب الطاعة المحمول على الزوجة بالفصل 23 واستبدله بواجب التعاون والتشارك بين الزوجين في تسيير شؤون الأسرة. وقد صادقت تونس على العديد من الإتفاقيات المتعلقة بالمرأة منها إتفاقية سيداوا المناهضة لكل أشكال التمييز والعنف ضد المرأة والتي صادقت عليها تونس منذ 1985 والتي رفعت بشأنها أخيرا في 17 أوت 2011 كل التحفظات التي كانت متمسكة بها حول هذه الإتفاقية. إلا أن هذه القوانين لم تمنع إنتشار ظاهرة العنف المسلط على المرأة وخاصة الزوجة. أرقام مفزعة حسب آخر الإحصائيات زادت ظاهرة العنف ضد المرأة في تونس حيث أن 47,6% من التونسيات بين سن 18و 64 سنة تعرضن للإعتداء بالعنف خلال حياتهن وتختلف هذه النسبة في الجهات لتبلغ أقصى حد لها في جهة الجنوب الغربي التونسي لتصل إلى 74%. أما العنف الأسري فقد اتضح ان 45 % من التونسيات يتعرضن إلى أحد أشكال هذا العنف وأغلبها يكون العنف فيها صادرا عن الزوج أو القرين وبنسبة أقل عن الخطيب أو الصديق، أي أن المحيط الأسري الذي يفترض أن يكون آمنا، هو أكثر الأماكن التي تتعرض فيه المرأة للعنف بشتّى أنواعه. وقد تضاعفت نسبة النساء المعنفات بعد الثورة لتصل إلى 84 % منهن تعرّضن للعنف العائلي. ولتصل هذه الممارسات إلى حد تعرض 46 امرأة للقتل العمد على اثر ممارسة العنف الشديد ضدهن خلال العشرة أشهر الأخيرة من سنة 2013 من بين 7861 امرأة تعرضن الى شتى أنواع العنف حسب إحصائيات تم نشرها في السنة الماضية. وتتضاعف ممارسات العنف مع استهلاك الكحول والمخدرات وغيرها من المواد المغيبة للإدراك لتبقى المرأة ضحية كبرى لا سيما مع تصاعد الضغوطات الاقتصادية والنفسية والسياسية التي تلقي بظلالها على الأسرة التونسية. والملفت للإنتباه أن الكثير من النساء ضحايا العنف في تونس يلتزمن الصمت ويرفضن الكشف عن تعرضهن للإنتهاكات، وذلك لأسباب عدة منها عدم معرفتهنّ بالقانون وبحقوقهن، والأهم من ذلك الموروث التقليدي الذي توارثته عن أسرتها وهو القبول بالأمر الواقع والخضوع للزوج المعنف وعدم إفشاء الأمر على أساس أن ضربها وشتمها وإهانتها ونعتها بأقبح النعوت هي من حقوقه عليها، متناسية بأنها إنسانة لها نفس الحقوق والواجبات وليست جارية أو عبدة. وعند الإستفسار عن سبب سكوتهن عن هذه الإعتداءات أجبن بأنهنّ على حد تعبيرهن «يردن الهناء» . أما اللواتي تجرّأن على البوح، وقدمن قضايا في الشأن، فقد اكّدن أن هذا التأخر في إفشاء الأمر يعود إلى إنتظارهن مرور مدة معينة لكشف الأمر، ذلك أن المرأة المتزوجة حديثا في تونس نادرا ما تفصح عما تتعرض له من اعتداء خوفا من أن تتهم في عرضها وسمعتها وتصبح حديث الساعة ولا تدور النقاشات إلا حول فشل زواجها منذ أيامه الأولى وبالتالي فإنها تخضع للزوج وإهاناته وتلتزم الصمت. ولسن بقلائل اللاتي يخفين آثار العنف بالمساحيق والتبرج أو بالملابس، ويختلقن روايات كالسقوط في الدرج أو الإصدام بشيء. الحماية القانونية للمرأة المعنّفة في تونس العنف هو واقعة قانونية تثبت بجميع وسائل الإثبات ومن أهمها الشهادة الطبية وهي الوسيلة الأكثر اعتمادا في التطبيق. إذ أنه إثر تعرض الزوجة للإعتداء، يجب عليها الحصول على شهادة طبيّا في الحال وذلك لتحديد الضرر الحاصل لها ونسبته. إلا أن هذه الشهادة وإن أثبتت وجود آثار عنف ودرجته فإنها لا تحدد المعتدي أو العلاقة السببية بين العنف المدّعى والضرر الحاصل مما يوجب على الزوجة البحث عن وسائل أخرى للإثبات و من بينها خاصة شهادة الشهود، إلا أنه عادة ما ينعدم وجود الشهود نظرا للإطار المكاني والزماني الواقع فيه الضرر، وهو داخل المنزل. ثم إن الشهود إن وجدوا فهم عادة من الأبناء أو الأقارب الذين لا يعتد بشهادتهم قانونا إذ يمكن التجريح فيهم، الى جانب ان شهادات الأبناء او العملة بالمنزل لا تقبل في القانون التونسي الاّ في حالات استثنائية جدا. وتقوم الزوجة برفع شكواها ضد المعتدي (الزوج)، وتعتبر هذه الفترة هامة وخطيرة جدا، وذلك لقيامها بتحرك طلبت بمقتضاه تدخل السلطات الأمنية والقضائية لإنصافها في المظلمة التي تعرضت لها. وهنا تتحول العلاقة الناشئة بين الزوجين إلى علاقة تتسم بالعداء القضائي، حيث تتحول من علاقة زوجية إلى خصام في المحاكم بين مدعية ومدعى عليه، ويزيد الأمر سوءا عادة عند بقاء الزوجة في محل الزوجية خلال النزاع وهو ما يحصل في 59 % من القضايا المنشورة أمام المحاكم لتبقى نسبة مغادرة الزوجة إلى منزل أحد الأقارب وعادة الأبوين 41%. ويبدأ التعهد القضائي بالشكاية التي قدمتها الزوجة المدعية إلى مركز الأمن أحيانا أو إلى النيابة العمومية والتي تحيل الدعوى لأجهزة الأمن لإجراء الأبحاث المستوجبة. ورغم خطورة الأفعال المنسوبة للزوج فإن باحث البداية أي رجل الأمن أحيانا لا يمكنه أن يوفر للزوجة أية إجراءات حمائية وقائية تمنع تواصل تعرضها للعنف من قبل الزوج حتى بعد تقديمها للشكاية، هذا إن لم يمارس عليها رجل الأمن نفسه ضغوطات لإسقاط شكواها خاصة إن كان عون الأمن هو نفسه رجلا ويعتبر أن إعتداء الزوج على زوجته بالعنف أمر طبيعي وعادي بل يصل الأمر في العديد من الأحيان وهذا حسب شهادات سيدات تم تعنيفهن من قبل أزواجهن وحسب ما ورد في محاضر الجلسات في المحاكم أن أغلب المحاضر الأولية في مراكز الأمن يتم إتلافها وذلك لمعرفة أحد الأعوان للزوج أو لتقديم هذا الأخير رشوة ليمحو أثار جريمته، لتجد المرأة نفسها في أغلب الحالات مجبرة للعودة إلى محل الزوجية، مع تكرار المأساة من جديد. ويجب الإشارة هنا، إلى أن المشرّع التونسي سنّ جملة من القوانين المتعلقة بقضايا الإعتداء على القرين وذلك بهدف حماية المرأة خاصة أنها الأكثر تعرضا لهذا النوع من العنف. فقد أفرد الفصل 228 من المجلة الجنائية بعد تنقيحه سنة 1993 العنف الأسري بأحكام خاصة، إذ ضاعف المشرّع العقوبة السالبة للحرية في الفقرة الثانية من سنة واحدة إلى سنتين وضاعف الخطية المالية من 1000 إلى 2000 دينار، كما رفع العقوبة إلى ثلاث سنوات والخطية إلى 3000 دينار في صورة تقدم إضمار الفعل. أما إذا نجم عن الاعتداء بالعنف سقوط بدني فيرفع العقاب بالسجن إلى خمس سنوات إذا كانت نسبة السقوط دون ال 20 % و ست سنوات إذا تجاوزت هذه النسبة. كما تجدر الإشارة إلى أن المشرّع التونسي ألغى الأعذار القانونية المنصوص عليها بالفصل 207 قديم من المجلة الجنائية والذي كان يقر عقوبة مخففة للزوج الذي يقتل زوجته لدى اقترافها لجريمة الزنا بمحل الزوجية فأصبح لا يوجد بتونس ما يسمى بجرائم الشرف وذلك بمقتضى القانون عدد 72 المؤرخ في 12 جويلية 1993. وخلافا للدعاوى الجزائية الأخرى فإن القاضي لا يمكن له إثارة الدعوى كما لا يمكن له التدخل بعد صدور الحكم وفي مرحلة تنفيذ العقوبة، إذ تبقى الدعوى بيد الزوجة المدعية التي لها أن تسقط دعواها في أية مرحلة من المراحل فتوقف بذلك التتبعات الجارية أو يمكن لها أن توقف تنفيذ العقاب الصادر ضد الزوج عن طريق الإسقاط. لكن يجب هنا أن نوضح أن الإسقاط رغم ان الهدف منه عند الزوجة الحفاظ على الأسرة من التفكك وترك باب المصالحة بين الزوجين مفتوحا، خاصة إن قام الزوج بطلب المغفرة وتقديم وعود بعدم تكرار هذا الإعتداء (عادة يلتجئ الزوج هنا إلى الكذب والإدعاء بهدف حصوله على الإسقاط فقط) فإنه يخلق لدى الزوج المعتدي شعورا، بل قناعة بأنّ بإمكانه النجاة من العقاب وبأنه فوق المحاسبة فيعمد إلى الإعتداء بالعنف على زوجته عشرات المرات وإهانتها مئات المرات وبشكل أسوأ من المرات السابقة، متأكدا من أنه في حالة لجوئها للقضاء ستقوم بالإسقاط، وهنا ليس للقاضي ولا لأية سلطة أخرى الحق في عدم اعتماد الإسقاط الصادر عن الزوجة. وقد مكن المشرّع التونسي المرأة من حق طلب الطلاق للضرر وطلب تعويض مادي ومعنوي من الزوج المعتدي على أساس وجود حكم بات يدين الزوج من أجل الإعتداء بالعنف والذي لا يمكن أن تعتد بغيره من وسائل الإثبات لطلب الطلاق إلا ربما إقرار الزوج بذلك وهي حالة نادرة جدا، إن لم نقل مستحيلة. إلا أنه من خلال الإحصائيات المجراة داخل المحاكم نجد أن نسبة الأحكام الصادرة في مادة الطلاق للضرر قليلة جدا مقارنة بالكمّ الهائل من قضايا الإعتداء بالعنف على الزوجة. إذ تلتجئ المرأة المعنفة إلى حل ليس بالهين وهو طلب الطلاق إنشاء أي برغبة منها وتجبر على أن تدفع للزوج الجاني في حقيقة الأمر تعويضا عن ضرره المعنوي الناجم عن الطلاق والحال أنها هي المتضررة في الأصل، وتكون قد تخلت هنا عن حقوقها المكفولة شرعا وقانونا، وتكون مثالا للضعف والخضوع لإرادة الرجل، وتفتح الباب على مصراعيه أمام المجتمع الذكوري للقيام بالمزيد من الإعتداءات على الزوجات خاصة والمرأة التونسية عامة.