تبقى صفاقس رغم ما عانته من تهميش واقصاء على امتداد عقود رقما مهمّا في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتربوي وكذلك النضالي. وصفاقس التي كانت في ماضيها الضارب في عمق التاريخ مدينة مهمة في الحوض المتوسطي تربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب بالنظر الى ما يتحلى به اهلها من قيم العمل والاتقان والتفتح على الآخر والقدرة على التواصل كانت دائما عصية على الانكسار وهي التي لم تقبل نظام الحماية الفرنسية وكانت آخر المدن التي سقطت بعد أن قدمت ضريبة الدم وملحمة الصمود والاستبسال. كما انها قاومت المستعمر الفرنسي مقدمة الشهداء الوطنيين والنقابيين والثوار ويكفي ذكر شهيد العمل السياسي والوطني الهادي شاكر وشهيد العمل الوطني والنقابي فرحات حشاد. ومنها انطلق تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل بتأسيس اتحاد النقابات المستقلة بالجنوب ثم تحول حشاد الى العاصمة لتأسيس اتحاد الشمال وصولا الى انبعاث المنظمة النقابية العتيدة بقاعة الخلدونية بالعاصمة لتكون شوكة في حلق الاستعمار. وفي ظل الحقبتين البورقيبية والنوفمبرية لم تنل المدينة حظها لتبقى مهمشة ومحرومة من ثمار التنمية التي تستحقها ومنها البنية التحتية والمشاريع العمومية الكبرى رغم انها مدينة العمل والانتاج والتقدم والعلم والكفاءات وآداء الواجب الضريبي والاداءات فتأخرت اقتصاديا واضطر بعض أهاليها الى النزوح عنها والانتقال الى العاصمة على وجه الخصوص... ولكن مع كل ذلك ظلت صفاقس (مدينة وولاية) رقما صعبا في كل المعادلات واسهامها في ثورة الحرية والكرامة اكبر من الوصف وهي التي زلزلت عرش المخلوع وكانت المسيرة الشعبية الضخمة وغير المسبوقة في 12 جانفي 2014 فاصلة او لعلها كانت المسمار الاخير في نعش حكم المخلوع بن علي وهي التي ظلت على امتداد العقود تصدع بالصوت العالي وبالهمس انها ترفض الغبن مثلما ترفض القهر وتعشق نسائم الحرية والانعتاق الذي يفتح الابواب رحبة امام مزيد التقدم والرقي للجهة وللبلاد. وكان جليا وواضحا أثناء حكم المخلوع وتحديدا في اول انتخابات بعد انقلاب 7 نوفمبر وتحديدا في افريل 1989 أن أهل صفاقس ورغم ان النظام كان يعشق اللون الواحد فان نتائج تصويتهم الحقيقية كانت مغايرة لرغبة المخلوع وصبت لغير مصلحة بن علي ونظامه وحزبه وهو ما جر على هذه المدينة مزيد النقمة عقابا لها على ما أدلت به في صناديق الاقتراع. والآن وبعد الثورة يدرك كل الساسة أن مدينة صفاقس تبقى رقما مهما في المشهد ولها ثقل كبير وهي المدينة الثانية في البلاد كما انها المدينة التي يمكن ان تكون العاصمة الاقتصادية الاولى لو توفرت النوايا الصادقة للاهتمام بكل جهات البلاد. وهذا ما يفسر «حج» زعماء الاحزاب السياسية اليها بين الحين والآخر. ونذكر انه خلال انتخابات المجلس الوطني التأسيسي فضّل الحزب الديمقراطي التقدمي (الحزب الجمهوري حاليا) ان تنطلق حملته الانتخابية منها كما ان التكتل الديمقراطي فضل ان يكون اختتام حملته بها كما ان حركة «النهضة» التي تدرك قاعدة صفاقس الشعبية الكبيرة اقامت اجتماعها الشعبي الانتخابي بالمسرح الصيفي بسيدي منصور بحضور أمينها العام حمادي الجبالي الذي تولى منصب رئاسة الحكومة بعد صدور نتائج الانتخابات. والآن ومع اقتراب المواعيد الانتخابية الرئاسية والتشريعية ثم البلدية وبعد حوالي ثلاث سنوات من الممارسة السياسية الحرة بايجابياتها وهناتها ومع مناخ الحرية والديمقراطية فقد أصبح متاحا للمواطن معرفة برامج الاحزاب السياسية ورؤاها لحاضر البلاد ومستقبلها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لأجل هذا كله باتت صفاقس ميدانا ل «معارك» سياسية كبيرة من أجل استقطاب الناخبين واستمالتهم باعتبارها مدينة وولاية ذات ثقل كبير جدا ومهم للغاية وهذا هو سرّ تعدد حج بعض السياسيين اليها في المدة الاخيرة ومن هؤلاء مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيس حزب «التكتل» الذي عقد اجتماع مكتبه السياسي بصفاقس تلاه اجتماع شعبي بأحد النزل وكذلك حرص الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة «النهضة» على الذهاب إليها في آخر أيام الاستفتاء الداخلي لحركة «النهضة» واخيرا زيارة الباجي قائد السبسي لعقد اول اجتماع شعبي لحركة «نداء تونس»بالمدينة. وما بدا واضحا للمراقبين للمشهد بصفاقس فإن هناك حالة من الاستقطاب الثنائي القوي بين «النهضة» و«النداء» وتسابقا على الفوز بأصوات «الصفاقسية» واسترضاء الناخبين وكسب ودّهم لعلم هؤلاء الساسة وادراكهم لقيمة كسب معركة الانتخابات بصفاقس. ولئن كانت حركة «النهضة» تدرك وتعي جيدا تغلغل حضورها في عديد الاوساط بصفاقس ولا سيما الشعبية والمعتمديات والأرياف بالنظر الى نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011 فإن حركة «نداء تونس» التي لم تكن موجودة آنذاك بدا واضحا سعيها الى افتكاك اصوات الصفاقسية من «النهضة». وقد قام «النداء» الحزب الذي لم ينجح منذ تأسيسه في عقد اي اجتماع عام بالجهة وهو الذي كان محاصرا من قبل الجمعيات الثورية التي اعاقت عددا من اجتماعات منتسبيه وبعد القيام بالهيكلة الجهوية وبعد ان امتص تأثير بعض الاستقالات داخله قام بجس النبض في مناسبة اولى بعقد اجتماع ل «النداء» في العامرة ثم جاء عقد اول اجتماع عام شعبي بمعرض صفاقس الدولي وبحضور رئيس الحزب الباجي قائد السبسي الذي كان يدرك قيمة صفاقس وثقلها الانتخابي. ولهذا قال لنا في مؤتمر صحفي بعد الاجتماع ان صفاقس منطقة «صعيبة» وانه يعرف لمن صوتت بالاغلبية في الانتخابات السابقة وهو بطبيعة الحال يسعى الى افتكاك هذه الاصوات ولذلك كان حرص الندائيين كبيرا على انجاح اجتماع 20 افريل 2014 بصفاقس شعبيا ولعل هذا ما يفسر ايضا سر توقف السبسي في إشادته بمدينة صفاقس وتاريخها النضالي الكبير ولعله اراد بذلك ان يتجاوز «سقطته» الكلامية التي اغضبت الصفاقسية عندما قال في افتتاح معرض صفاقس الدولي صائفة 2011 أنه على الصفاقسية ان يعولوا على انفسهم ولا ينتظروا شيئا من الدولة.. واضح ايضا اهتمام حزب «نداء تونس» بأن يكون دخوله الى صفاقس كبيرا ومن هنا نفهم سر تواجد كامل مسؤوليه الوطنيين وكبار مدعّميه ومنهم «صفاقسية» لحضور الاجتماع العام الاحد الماضي... ومع ذلك واضح ايضا في ذهن قائدي «النهضة» و«النداء» الشيخ راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي التأكيد في كلامهما على الاشادة بصفاقس وحديثهما عن اهمية رد الاعتبار الى هذه القلعة النضالية وهما رمزان مشهود لهما بالدهاء السياسي وبحسن التدبير في اللحظات الصعبة. والأكيد ان هذا التنافس من أجل كسب ودّ مدينة صفاقس انتخابيا سيحتم على حزبي «النهضة» و«النداء» توخّي الكثير من الحذر والمواقف الرصينة والتعامل مع هذه المدينة بالقدر الذي تستحقه فعليا لا بالشعارات لان صفاقس مدينة النضال ولكنها أيضا مدينة العمل وتثمين الانتاج. ويدرك «الصفاقسية» انهم مجّوا وعود التطوير والارتقاء وأنهم لن يصوّتوا الا على أساس الافعال ولمن يبني حقا تونس ومدنها ويحقق نهضتها بما ينسجم مع عقيدة ابناء عاصمة الجنوب في العمل والتعليم والانتاج والانفتاح.