«التقدّميون» أنقذوا «النهضة» من كارثة حسابات «النهضة» أشدّ خبثا و«النداء» في حاجة لقرارين حوار: أسماء وهاجر من هم المستفيدون الحقيقيون من ثورة 14 جانفي 2011؟ كيف ينظر الى مبادرة «النهضة» الخاصة برئيس توافقي؟ ما هو تقديره لمستقبل الإسلام السياسي في الوطن العربي؟ وهل حقا أنقذت قوى سياسية «النهضة» من ورطة؟ ماذا يقول في ظاهرة المال السياسي وتأثيره على مستقبل التجربة الديمقراطية الناشئة؟ ماذا يقول عن دواعش ودوامس الإرهاب وبارونات التهريب؟ عن هذه الأسئلة وغيرها يتحدث عبد العزيز بلخوجة صاحب كتاب «التحقيق» ومشروع تجميع القوى الديمقراطية والتقدمية لصياغة مشروع مستقبلي موحّد في حواره مع «التونسية». حسب تقديرك من المستفيد الحقيقي من الثورة التونسية؟... هل تم القضاء على لوبيات النظام القديم؟ وماذا «غنم» المواطن من الثورة؟ إن الرابح الحقيقي من الثورة هو المجتمع المدني. إن القضاء على الدكتاتورية لا يكون سوى بمجتمع يضمن العيش الكريم والتعايش وهو ما أصبح اليوم محل تهديد حقيقي. أما عن اللوبيات فهي تزدهر دوما بفضل الحصانة القضائية وغياب المحاسبة ، ولكن للأسف قد تتطلب ملاءمة القوانين والتشريعات مع الدستور الجديد أكثر من عقد من الزمن. أما عن المواطن التونسي فهو لم يكسب سوى قدر من الحرية ومازال يطمح للكرامة الحقيقية والازدهار. ولتحقيق هذه الطموحات وجب أن يكون للبلاد فريق حكومي، تقدمي الفكر ويتمتع خصوصا بالنزاهة والقدرة على الابتكار والابداع. ماذا تخفي مبادرة «النهضة» المتعلقة برئيس توافقي؟ تونس تحتاج رئيسا منتخبا مباشرة لأن أصوات الناخبين هي التي تمنحه القوة وتجعل منه ملاذا للتونسيين ومعبرا حقيقيا عنهم وعن الدولة. ولكن «النهضة» لا تملك الكفاءات ولا الشخصيات القادرة على شغل هذا المنصب الحيوي وهو ما عبر عنه كبار قيادييها أنفسهم. إن «النهضة» ومن خلال دعمها ما تسميه «المرشح التوافقي» تريد الحصول على ضمانات سياسية مسبقة وفي الوقت نفسه بث الاضطراب في صفوف الشخصيات المرشحة للرئاسة والتي يعاني معظمها من الغرور والنرجسية. مثل هذا السلوك يرمي لإفراغ المنصب من عناصر قوته وتنصيب رئيس مكبل بالتوافق والحسابات السياسية وغير قادر على الحسم بقوة في الملفات المطروحة على مكتبه، كما يهدف أيضا لإبعاد المرشحين عن قيم أحزابهم الحقيقية وبالتالي نصب فخ لهم في الانتخابات التشريعية يضعف حظوظهم. هل تعتقد اليوم أن اللعبة الأكبر التي تنسج في خفايا المكتب السياسي لمونبليزير كما ورد في تعاليق بعض السياسيين هي صفقة «القصبة مقابل قرطاج»؟ أظن أن «النهضة» لها حسابات أشد خبثا، فهي تريد الاستناد إلى تجربة الانتخابات الرئاسية الايرانية في 2013 حيث حصلت المفاجأة منذ الدور الأول بصعود مرشح غير متوقع. ولهذا فهي الآن تشجع عددا كبيرا من الشخصيات على التقدم والتنافس في انتظار أن تعلن في اللحظة الحاسمة عن مرشحها، وبهذا فهي تريد أن يسهم التنافس بين المرشحين الحداثيين في اضعافهم وتشتيت الأصوات وبالتالي صعود مرشحها الحقيقي في غفلة من الجميع. إن «النهضة» تلعب على وقع معادلة «القصبة مقابل قرطاج» وهي معادلة ربما لا تنجح تماما ولكن تقديم الانتخابات التشريعية على الرئاسية يعطي دفعا قويا لمثل هذا التخطيط خلال التنافس على الرئاسة. بعد فشل توحّد الاحزاب الديمقراطية الحداثية هل سينتصر الاسلام السياسي في تونس؟ لقد شكلت الثورة التونسية حراكا اجتماعيا وحضاريا من خلال القيم التي نادت بها وهي قيم الكرامة والحرية والمساواة، وهي قيم تقدمية تتعارض تماما مع ما تنادي به حركات الاسلام السياسي. ولكن القوى الحداثية ، وبسبب الغرور والأنانية الفردية، تشتتت وضاعت، بل وصل بها الأمر حد نسيان دورها في الدفاع عن الاصلاحات اللازمة لإخراج بلدانها من عقود من الدكتاتورية والتفرد بالسلطة ولم تحسن صياغة خطاب سياسي يلقى صدى لدى المتلقي. وقد كانت نتيجة هذا الوضع أن وجد الاسلاميون أنفسهم في موقع مريح تمكنوا من خلاله من صياغة خطاب سياسي مخالف تماما هدفه تحويل الانتباه عن القضايا الحقيقية نحو قضايا أخرى هامشية تستنزف الوقت والجهد بلا جدوى. إن المشهد السياسي البائس في الدول العربية والغياب الحقيقي للقوى الحداثية والتقدمية قد يطيل عمر هذه الحركات الدينية، ولكن الأمل الوحيد يبقى في وعي المواطن العربي والذي اكتشف ولأول مرة في التاريخ أن حركات الاسلام السياسي لا تملك مشروعا واقعيا ولا حتى الكفاءة اللازمة لإدارة الدول والمجتمعات وأن خطابها مليء بالمغالطات والأكاذيب وبتوظيف الاسلام من اجل ضمان السلطة لا غير دون اهتمام بقيمه الأخلاقية والحضارية الحقيقية وبالتالي فقد زالت تلك الهالة من القداسة والاحترام الذي حظيت به هذه الحركات لعقود وتهاوت صورتها بشكل سريع وغير متوقع واكتشف الناس تضارب خطابها وسلوكها مع الواقع ومع طموحاتهم في الحرية وفي حياة أفضل. اليوم عديد السياسيين يتحدثون عن «هدايا» قدمها الديمقراطيون انفسهم لفائدة حزب «النهضة» وأنها اليوم الأقوى رغم كل جراح الحكم ؟ لقد أضاعت القوى التقدمية مئات الفرص خلال الفترة الأخيرة، فهي لم تعمل بشكل معمق وظلت حبيسة النرجسية الشخصية لقادتها كما غابت عنها المثابرة والانضباط الحزبي والنجاعة في العمل. في المقابل فإن قوى المجتمع المدني هي التي أنقذت تونس من مغامرات لا تحمد عقباها وهي التي شكلت حراكا مقاوما على الأرض في الوقت الذي كانت فيه عديد الأحزاب التي ترفع شعارات تقدمية لا تخجل من التواطؤ مع الاسلام السياسي سرا وعلنا. بل إن الأدهى والأمر هو أن التقدميين أنقذوا «النهضة» من الكارثة بعد استشهاد شكري بلعيد ومحمد البراهمي وأهدوها خروجا مشرفا من السلطة لم تكن تستحقه بعد أن فشلت في كل المجالات ولم تقدم شيئا يذكر لتونس. هل ترون أنه في ظل المال السياسي المتدفق على البلاد بطرق مختلفة سيرتهن مستقبل بلادنا بالخارج؟ يجب علينا أولا ألا نفكر في الحلول التي تأتي من الخارج والتي ستكون كارثية على البلاد في غياب رجل الدولة القادر على تحقيق الاجماع الضروري وأخذ القرارات الكبرى والمصيرية. ولكن هل ستفرز لنا الانتخابات الرئاسية رجلا بمثل هذه المواصفات ؟ من السابق لأوانه الآن الجزم بهذا. أما عن المال السياسي فقد تهاطل بلا رقابة في 2011 وأثر على النتائج النهائية ولا يبدو أن الأمر قد تغير كثيرا اليوم. وبالرغم من كل هذا فقد ظهر الفشل الذريع للاسلام السياسي وبان وجهه الحقيقي للناس ، ولذا فالمتوقع أن الكثير من التونسيين الذين صوتوا لحركة «النهضة» في 2011 هم اليوم غير مستعدين لتكرار ذلك حتى لو وقعوا تحت اغراء المال السياسي، خصوصا أن المشهد اليوم مختلف تماما وامكانية الاختيار للناخب التونسي تحسنت عما كان عليه الأمر قبل ثلاث سنوات. ففي 2011 لم يبرز أي حزب تقدمي بمظهر الحزب القوي المنظم القادر على تسيير البلاد، أما اليوم فيبدو أن «نداء تونس» يمنح مثل هذه الصورة للناخبين ويعطيهم أملا في تحقيق ما يطمحون إليه ولكن هذا مازال مرتبطا بمدى شجاعة رئيسه في القيام بإصلاحات صغيرة ولكنها ضرورية للتقدم نحو الأمام. في مقولة شهيرة لراشد الغنوشي «نخرج من الحكومة حتى لا يسقط المعبد على رؤوسنا»هل تعتبر أن هذه الحكمة وراء تواصل النفوذ النهضوي الذي بات لا يخفى على العارفين بكواليس المطبخ السياسي التونسي؟ نعم لقد تمكنت «النهضة» من انقاذ نفسها عبر الحوار الوطني، وتمكنت من دعم صعود رئيس حكومة ضمنت من خلاله الحماية خصوصا مع حفاظه على لطفي بن جدو في الداخلية وعديد الاطارات والمسؤولين الذين يعملون بما يوافق مصالحها. ففي العديد من الإدارات والمؤسسات التي يفترض أنها محايدة سياسيا ، مازال مسؤولو «النهضة» والمقربون منها يواصلون تحكمهم في سير الأمور. لقد ضمنت «النهضة» بذلك تجنب المحاسبة الفورية بما لها من نتائج كارثية على صورتها خصوصا أن عديد الملفات التي تؤرقها لم يتم فتحها حتى الآن بفضل وجود مسؤولين عديدين في الجهاز التنفيذي للدولة. رأيكم في أداء حكومة التكنوقراط إلى حدّ الآن؟ لقد حظيت حكومة التكنوقراط بدعم واسع من التونسيين في بداية الأمر ولكن تبين مع مرور الوقت أنه لا قدرة لها على تغيير الواقع بل أقصى ما يمكنها فعله هو تسيير الشؤون اليومية. وهذه الحكومة تكتفي بالمسكنات في المواضيع التي تستوجب الجراحة، وحتى إن عمدت للجراحة فهي لا تتجاوز حدود الجراحة التجميلية التي لا تحل المشاكل من منبعها.
يتباكون على غزة ويقيمون الدنيا بالمسيرات ثم يتمسحون بتونس على أعتاب السفارة الأمريكية ويحافظون على مصالحهم، كيف تقيم هذه المواقف؟ لنوضح أولا أن هذا الأمر لا ينطبق على كل السياسيين التونسيين الذين يتجنب بعضهم التمسح على السفارات بما فيها الأمريكية. إن الإشكال بالنسبة لي لا يكمن في مقابلة السفير الأمريكي ولكن في عدم القدرة على التعبير أمامه بصدق عن مطالب التونسيين وانتقاداتهم والذي يكشف تخاذل بعض القيادات السياسية. إن طبيعة الأمريكيين تجعلهم لا يحترمون من لا يعبر عن الحقيقة ، ولكن الإشكال لا يقف حد هذا بل إن المثير للقلق هو أن سياسيينا لم يفكروا يوما في الاتصال بالسفيرين الروسي والصيني ووضع الأمريكيين أمام مسؤولياتهم وتخييرهم بين إيقاف هذا التلاعب الخطير الذي يتشاركون فيه مع بعض الدول أو فسح المجال لنقيم علاقات أقوى مع الروس والصينيين بما يخدم مصلحة تونس. إن اللعب على التجاذبات بين القوى الدولية يصب في مصلحة تونس دوما كما كان عليه الحال أيام الرئيس بورقيبة والذي كان يتقن فن التوازنات السياسية الدولية ويستغلها للحصول على أقصى قدر من الضمانات لصالح تونس. ما رأيك في الحملة التي تشنها بعض الصفحات على حزب «نداء تونس» اثر تسريب وثيقة تلقيه سيارتين في شكل هدية؟ إن هذه الحملة هي مجرد زوبعة اعلامية ستهدأ سريعا خصوصا أن الهدية المذكورة ليست تمويلا سياسيا بقدر ما هي مساعدة تقنية من أجل حماية شخصية سياسية مهددة. إن المقلق في هذه المسألة من وجهة نظري ليس طبيعة الهدية ولا الجهة التي قدمتها بل هو المناخ الأمني غير المطمئن الذي يسود البلاد وعجز الدولة والمجتمع عن ضمان الحماية الكافية للنشطاء والقادة السياسيين وتدهور الثقة بين جميع الأطراف. العنف السياسي وثقافة القتل والعنف والاقصاء الجسدي هي أكبر كارثة يمكن أن تهدد المسار الديمقراطي وهي الاشكال الحقيقي الذي وجب التصدي له بدل إضاعة الوقت في المهاترات والتراشق بالاتهامات يمينا ويسارا لتحقيق مكاسب سياسية بأسلوب رخيص. هل يمكن القول إن أسهم «نداء تونس» في تراجع كما يروّج لذلك البعض باعتباره حزبا بورجوازيا؟ في ما يخص «النداء» فأني أرى أن حظوظه وافرة ولكن على رئيسه السيد الباجي قائد السبسي اتخاذ قرارين صغيرين يضمنان له النجاح الحقيقي : 1 – التخلي عن وجود ابنه في القيادة الحزبية لأن تونس عانت لسنوات من هيمنة المصالح العائلية في السياسة وهو ما أصبح محل قلق وعدم قبول من التونسيين ولأن النظام الجمهوري بني ضد طغيان العلاقات العائلية في السياسية وهذه الملاحظة لا تخص «النداء» وحده بل عديد الأحزاب 2- ارساء آليات ديمقراطية فعلية في اتخاذ القرار داخل حزبه وارساء المثل والقدوة في هذا بما يتوافق مع ما يطمح له التونسيون ومع أهداف ثورتهم والتي عجزت كل الحكومات الأخيرة عن ارسائها والدفاع عنها. إن مثل هذه القرارات ستقوي صفوف «النداء» وتحصنه ضد الهزات . أما في ما يخص الاتهامات بأنه حزب بورجوازي فأنا أراها غير متوافقة مع طبيعة النداء كحزب نجح لأول مرة في تاريخ تونس في جمع عائلات سياسية مختلفة من ليبراليين ويساريين ونقابيين وحقوقيين ومستقلين وهي في الحقيقة نقطة قوة لا ضعف لو عرف كيف يحسن توظيفها في صياغة مشروع سياسي واجتماعي يرضي طموحات التونسيين في الحرية والكرامة والتقدم. ماهي ضمانات المواطن الأعزل مع «دواعش» و«دوامس» الإرهاب وتغول بارونات التهريب؟ هناك اختياران قد يحكمان مستقبل تونس. أولهما مشروع وطني تدافع عنه الاحزاب التقدمية أو مشروع اسلامي دولي تدافع عنه الاحزاب إسلامية التوجه. الأول يرمي لضمان العيش الكريم للتونسيين وتنمية البلاد وضمان الازدهار والأمن لشعبها. أما الثاني فهو مدفوع من الخارج وهدفه اخضاع البلاد سياسيا والتفريط في مكتسباتها الاقتصادية وترك شعبها يخضع للجهل عبر فرض رؤية مغلوطة ومتشددة عن الاسلام. إن كل ما يجري منذ 2011 ليس سوى صراع بين المشروعين، وكل المال المتدفق من الخارج يرمي لقتل روح الثورة الحقيقية وخلق دكتاتورية جديدة في ثوب مختلف. إن نجاح الحركات المتشددة في ضرب مشاريع الدولة الوطنية لم يكن سببه الفقر أولا بل السبب ثقافي بالأساس لأن مجتمعاتنا هشة فكريا ولأن هذه الحركات وجدت من ينظر لها ومن يقتنع بفكرها ولعل أول ضمانة للمواطن من مثل هذه المخاطر هي الدفاع عن مشروع ثقافي تربوي حقيقي يحصن عقله ضد الوقوع في التشدد العقائدي والفكري وثانيا تحسين وضعه الاجتماعي والاقتصادي . وبقدر ما نحصن الفرد فإنه يجب الدفاع عن مشروع الدولة الوطنية الجامعة لكل أبنائها وفرض سلطة القانون وترسيخ العدالة ضد كل تجاوز. ككاتب ومحلل سياسي ودارس لتاريخ قرطاج هل ترى أن روح «حنبعل» والدولة البورقيبية ستنتصر أم أن الافغنة امامنا والصوملة وراءنا كما يقول البعض؟ إن أهم شيء في مثل هذه الفترة التاريخية المذهلة التي تعيشها تونس هو الثقافة، ولكن للأسف فإن الثقافة اليوم هي الخاسر الأكبر والغائب الأكبر أيضا بسبب ضعف الارادة السياسية. صحيح أننا نعيش اليوم فترة اضطراب مست من جوهر وطبيعة تونس الحضارية بسبب التدخل الخارجي. ولكن الثقافة المطلوبة هي أيضا الثقافة الديمقراطية والاسلامية والسياسية والاقتصادية الخ ... هي أيضا السينما والأدب والمسرح والفنون ... إن الثقافات هي أكثر ما تتجسد من خلاله الثورات، ولكن للأسف فإن كل الأحداث الثقافية الأخيرة كانت نتاج اجتهادات فردية وجمعياتية في ظل غياب غريب للدولة مما عزز حضور ثقافة العنف والإقصاء والموت. وبهذا تبقى الثقافة التونسية الخاسر الأكبر، ففي حين تهدر الملايين من أجل نجوم أجانب تنتظر ثقافتنا المشروع الحقيقي للدولة والذي يمكنه حمل قيم تونس وثورتها وشعبها إلى كل أرجاء الأرض. إن روح حنبعل وبورقيبة كانت تتلخص في شيئين : قوة الدولة والازدهار لكل الشعب . وما دمنا ساكتين إزاء تأثير دول لا تحترم ثقافتنا وتاريخنا ومن يدعمونها ويتواطؤون معها من التونسيين فسوف نبقى بعيدين عن هذا المشروع وعن قيمه.