لا بدّ من منوال تنمية جديد وعادل مطلوب تعبئة كل الطاقات لمجابهة الوضع المتردّي حوار: صباح توجاني بتغير الصورة النمطية لرجال الأعمال التونسيين وتطور وتوسع مجالات اهتماماتهم، صار من الممكن الحديث معهم حول رؤيتهم لتونس المستقبل وحول ما يطرحونه من اصلاحات ضرورية يستوجبها الوضع الإقتصادي المتدهوربالبلاد. ومن بين النخبة التي تضمّ قائمة هؤلاء والذين يتميزون برؤاهم النافذة لدواليب اقتصاد البلاد وبتحاليلهم لدهاليز الوضع المالي ومتطلبات انقاذ البلاد من الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها وتأثيرها على مسيرة التنمية ضيفنا اليوم الراضي المؤدب الذي يملك تصورات ملموسة وشاملة تستند إلى الواقع التونسي المعيش ترنو إلى إرساء «إصلاحات مؤلمة» لن تعطي أكلها الاّ على المدى المتوسط والبعيد. ويؤكد المؤدب في حوار «التونسية» معه أنه بالإمكان الإعتماد على الكفاءات الوطنية لإنجاز برامج الإصلاح السياسي والإقتصادي بفضل ما تراكم لدى الطاقات البشرية التونسية من تجارب وكفاءة معترف بهما عالميا. وفي السياسة كما في الإقتصاد، لضيفنا مواقف تستمد قوتها من الأهداف السامية التي ترمي اليها، حيث يضع النقاط على الحروف بخصوص ملامح الحكومة القادمة وأولوياتها الإستراتيجية التي يجب أنْ تعمل على تحقيقها..كما قدم الراضي المؤدب قراءة تحليلية موضوعية لمجمل أداء حكومة التكنوكراط التي تستعد للرحيل. تفاصيل الحوار في السطور التالية : قال رجل الأعمال المهندس الراضي المؤدب في رده على سؤال ل«لتونسية» حول موقفه من كثرة الترشّحات لمنصب رئاسة الجمهوريّة: «ما لاحظته ولاحظه عامة التونسيين هوالتركيز المفرط على استحقاقات الانتخابات الرئاسية مقارنة بالانتخابات التشريعية، علما أن الدستور الجديد أعطى صلاحيات أوسع لمجلس نوّاب الشعب وللحكومة، صحيح أن الدستور جاء بنكهة حزب الأغلبية، ولكن هذا الحزب حاول القطع مع نظام كان يخاف أن يفضي إلى الحكم الفردي إنطلاقا من وجهة نظر حزب الأغلبية فكان الأمر شورى بين ممثليه في المجلس التأسيسي. وأتصور أنه إلى اليوم لا يوجد كثير من التونسيين ممن قرؤوا الدستور الجديد وتمعنوا في ما تضمّنه وعرفوا بدقة توزيع الصلاحيات بين رئيس الدولة ومجلس الشعب ورئيس الحكومة..لقد بقي عالقا بذهن التونسي صورة رئيس الدولة سواء كان الأب كالزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، أو الرئيس المهيمن مثل بن علي. وأعتقد أن في تقديم هذا العدد الكبير من الترشحات تعبيرا عن إرادة خفية أو معلنة لملء منصب تصنع فيه أهمّ القرارات. فقد بلغ عدد الترشحات للرئاسية في مرحلة أولية مستوى غير مسبوق سواء في الداخل أو في الخارج مما قد يمسّ من هيبة المنصب، وحتى ما تبقى من عدد الأسماء التي خاضت الانتخابات لم يتماش مع مستلزمات الديمقراطية والإدارة السليمة للشأن العام. فقد لاحظنا من بين المترشحين من كانت له صفات رجل الدولة ومن لا علاقة له بتلك الصفات، كما وُجد ضمن المراهنين على كرسي قرطاج من تتوفر لديه الكفاءة الفنية دون خبرة سياسية حتى وان كانت لا تتماشى مع المنصب المنشود إلى جانب من انعدمت فيه كل مقاييس الكفاءة. وتضمّنت قائمة المترشحين أيضا المناضل الحقيقي الذي عانى من معارضة نظام الإستبداد، إلى جانب من كان في خدمة مصالح العائلات المرتبطة بالنظام القديم...كل هذا يدل على أن هذه الفسيفساء افتقدت إلى حد بعيد لمقتضيات الذوق السليم ولم تضع دائما المصلحة العليا للبلاد فوق المصالح الشخصية. لو طلبت منك أنّ تحدد لي ملامح الحكومة الجديدة كما تراها أنت؟ لقد أفضت عملية الإقتراع في الإستحقاق التشريعي إلى نتائج هامة تبرهن على نضج الشعب التونسي وتعبر عن ارادته الواضحة لإختياره الطرف الذي سيأتمنه على إدارة الشأن العام خلال المرحلة القادمة. فقد أفرزت الانتخابات التشريعية الأخيرة أغلبية على حساب أغلبية أخرى، وبذلك عبر التونسيون عن اختيارهم لنمط مجتمعي أساسه الحداثة والتفتح على العالم والمحافظة على ما عرفت به بلادنا منذ ما يزيد عن نصف قرن من إعتدال ووسطية وحداثة...ولكن وجب الإقرار بأنّ صندوق الإقتراع لم يعط في نفس الوقت أغلبية مطلقة لحزب دون غيره... وانطلاقا من هذه المعطيات، فاني لا أرى غير خيارين إثنين لتركيبة الحكومة الجديدة في المرحلة القادمة: الخيار الأول هو خيار حزبي بالأساس حيث يتفق في إطاره الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في «التشريعية» مع صاحب المرتبة الثانية ليشكل حكومة ائتلافية ترتكز على أغلبية عريضة في مجلس الشعب تعطيه القاعدة السياسية للقيام بالإصلاحات الكبرى. الخيار الثاني يكون من منطلق أن الوضع الإقتصادي والمالي والأمني والإجتماعي هو وضع هش بدرجة كبيرة لا تتماشى مع معالجته سياسات المحاصصة الحزبية ولا تقبل أٍرضية ضيّقة تفتقر لوضوح الرؤية لإنجاز الإصلاحات العميقة التي تحتاجها تونس خلال المرحلة القادمة. ويفضي هذا الخيار الثاني إلى تكليف حكومة كفاءات تتعهد بإخراج البلاد من النفق الذي تمر به شرط أنْ تسندها أرضية واسعة صلب مجلس نوّاب الشعب. فلا أحد ينكر أن بلادنا افتقرت على مدى العشرين عاما الماضية إلى إصلاحات هيكلية تغافل عنها النظام القديم ولم تُولِهَا حكومات ما بعد الثورة ما كانت تحتاجه من أولوية. لقد قامت الثورة في تونس على أساس ثلاثة مطالب استراتيجية: أولها المطالبة بالحرية والكرامة، حرية الرأي والتعبيروالتنظيم والإجتماع. ثانيها المطالبة بظروف اجتماعية أفضل ترفض كل أنواع التهميش من بطالة مستفحلة وانعدام البنية التحتية الضرورية في المناطق الداخلية، وصولا إلى الإقصاء من مجتمع المعرفة وغيرها من مظاهر التمييز الكثيرة. أما ثالث المطالب فيتعلق بالحق في المبادرة الإقتصادية سواء كان ذلك عند طلب الشغل الكريم المتماشي مع طموحات شبابنا وكفاءاته العلمية أو حتى حق الإنتصاب على حافة الطريق لتأمين مورد رزق يجنب الخصاصة وتداعياتها الخطيرة على الفرد والمجموعة. وهنا أستحضر ما قاله الفيلسوف الفرنسي «فولتير » «الشغل يبعد عنّا ثلاثة آفات : الكسل والرذيلة والإحتياج». فمنذ قيام الثورة، تجاوبت المجموعة إلى حد بعيد مع المطلب الأول الذي ذكرته وأقصد حرية التعبير، حتى وإن أفضى ذلك في بعض الحالات إلى تسيّب وعدم احترام أخلاقيات هذه الحرية. أما المطلبان الثاني والثالث، فلم يتحقق منهما شيء بل بالعكس، شهدنا تقهقرا للأوضاع الإقتصادية والإجتماعية لأغلبية التونسيين للأسف الشديد. برأيك هل بالإمكان اليوم الإستجابة إلى المطلبين المتبقيين وتدارك ما فات ؟ نحتاج اليوم إلى إجابة واضحة وقوية إزاء هذين المطلبين ولن يكون ذلك ممكنا الا بمعالجة الوضع على المدى القصير والبعيد في ذات الآن. فيجب توجيه رسائل قوية إلى كل من انتظر طويلا دون الحصول على شيء ، وأعني بذلك الجهات الداخلية المهمشة والشباب الباحث عن العمل والطبقة الوسطى والمؤسسات الإقتصادية والإدارة العمومية...باعتبارها أطرافا فاعلة للسير قدما نحو تنمية عادلة ومدمجة...فالمطلوب اليوم هو بعث روح الأمل من جديد لتعبئة كافة الطاقات لمجابهة وضعنا المتردي. ولا يفوتني هنا التأكيد بأنه على الحكومة الجديدة أن تعتمد إرساء العديد من الإصلاحات الهيكلية والجوهرية الكفيلة وحدها بإرساء منوال تنموي جديد يتحدث عنه الجميع ولا أحد تولى التعريف بمكوناته وخصائصه. ما هي مكونات هذا المنوال التنموي الجديد ؟ يتسم الوضع الإقتصادي اليوم بالهشاشة والتدهور ، حيث تفاقم العجز في العديد من المستويات، فنحن نعيش عجزا في ميزانية الدولة وعجزا في صندوق التعويض وعجزا في الميزان التجاري وعجزا في ميزان الدفوعات وعجزا في صناديق الحيطة الإجتماعية وعجزا في المؤسسات العمومية.... كل هذا الكم الهائل من العجز الذي نعاني منه تستوجب معالجته اصلاحات في العمق ولكنها ستكون مؤلمة ولن تفضي إلى نتائج الا على المدى المتوسط والبعيد. وفي نفس الوقت لا مجال لعودة النمو إلى مؤشراتنا الإقتصادية دون خلق علاقات مهنية جديدة قوامها الإحترام وتشريك كافة مكونات المجتمع وادماجها في منوال التنمية. فيجب ان يكون هذا المنوال شاملا لا يخلّف أحدا على حافة الطريق، بل يجند كل أبناء تونس وبناتها للمساهمة في التعريف بالحاجات واستنباط الحلول وتفعيل المشاريع وتوزيع ثمار التنمية....فالمطلوب أنْ نكون جميعا جنودا لتنمية هذا الوطن...نكون كالبنيان المرصوص يدا واحدة من أجل هدف واحد. ولا بد من التأكيد هنا أن المنوال التنموي الجديد يجب أن يكون إجتماعيا وعادلا ..وهذه العدالة المنشودة تمر حتما عبر إسهام كافة فئات المجتمع التونسي في منظومة الجباية ، كل حسب إمكانياته مع الحرص على مقاومة آفة التهريب والغش. كما يشترط أن تمر هذه العدالة عبر إعطاء كل جهة مواصفات الكفاءة والقدرة على المنافسة ومنح كل تونسي حقه في المواطنة والتنافس الشريف وتكافؤ الفرص. وأعتقد أنه من الواجب أن يكون المنوال التنموي الجديد مستداما لأن تونس تفتقر إلى موارد طبيعية هامة بما في ذلك التربة والماء والشريط الساحلي. وقد لا أذيع سرا اذا قلت بان إدارتنا لهذه الموارد اتسمت بالتبذير ووجب علينا الإتعاظ بقوله تعإلى :{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِين}.ِ ومما لا شك فيه أن المنوال التنموي يجب أن يكون منفتحا على الخارج حتى تكون تونس بلدا فاعلا في محيطه قادرا على خلق الثروات والأفكار، لا مستهلكا لها أو بمثابة العالة على بقية دول العالم. ويفترض أيضا أن يكون المنوال المقصود مبدعا ومتميزا، إذ أن العولمة تفرض علينا اكتساب القدرة التنافسية سواء كان ذلك على مستوى مؤسساتنا الإقتصادية أو على مستوى أدباءنا وفنانينا. هذه هي بعض ملامح المنوال التنمويّ الذي نصبو إليه والذي نتوق كلنا إلى تحقيقه بتجميع الطاقات وتشريكها في تنفيذه حتى يفضي النمو الذي عهدناه سنوات إلى تنمية حقيقية في خدمة الإنسان والرفع من كفاءته وتمكينه من كافة مكونات المواطنة الفاعلة. يبدو لي أن موعد جني ثمار المنوال التنموي الجديد لن يكون قريبا، برأيك هل بمقدورنا التوق إلى اقلاع اقتصادي خلال الأعوام القليلة القادمة ؟ بصراحة، لن يعطي هذا التمشي مع كل الإصلاحات التي يجب أن تواكبه نتائج إلا على المدى المتوسط والبعيد، خاصة على خلفية وجوب القطع مع ما طبع إقتصادنا سابقا من تدخل المقرّبين من السلطة وتمتيعهم بمزايا فوق القانون كل ذلك مع وجوب تفعيل القانون وفرض إحترامه على كافة المتدخلين في الشأن الإقتصادي. هل تنتظر قبول كافة الأطراف بالإصلاحات التي وصفتها بالمؤلمة ؟ لا شك أن معارضة شرسة ستواجه مجمل الإصلاحات المؤلمة من طرف كل من كان يتمتع بمزايا القرب من السلطة، سيأخذ هذا التمشي الجديد فترة لوضعه حيز التنفيذ، ويستوجب ذلك رؤية استشرافية واضحة وبرنامجا طموحا وإرادة سياسية قوية، ودعما سياسيا من كل القوى الوطنية الصادقة ...وفي أفضل الحالات سيستغرق الإصلاح مدة قد تبدو طويلة للتونسيين ولكنها قصيرة بالنسبة إلى مستقبل الشعوب وتطورها الحضاري. ماهو تقييمك لأداء حكومة التكنوقراط المستقلة مقارنة بالحكومات التي سبقتها خاصة أنك قدمت خيار تشكيل حكومة كفاءات في الفترة القادمة؟ لقد تقلدت حكومة التكنوقراط مسؤولية إدارة الشأن العام في نطاق خارطة الطريق المتفق عليها مع الرباعي الراعي للحوار الوطني فكانت بذلك مسؤوليتها محدودة وصلاحياتها ضعيفة وافتقرت للمساندة السياسية الواضحة.... وكلنا نتذكر انه عند تسلمها مقاليد الحكم ارتفعت عديد الأصوات من الفاعلين في الشأن السياسي ومن بينهم رئيس الجمهورية المؤقت لحث أعضائها على الاكتفاء بتنظيم الانتخابات وإدارة الشؤون اليومية للبلاد.. وانطلاقا من هذا التذكير بالإطار العام لتولي هذه الحكومة المسؤولية يمكن القول أن أداءها كان إيجابيا اجمالا، حيث انها قطعت مع الممارسات الحزبوية والشعبوية للحكومات التي سبقتها واتسم توجهها بالتشخيص الموضوعي.... لكن في نفس الوقت يجب الاعتراف انّ أداء الوزراء لم يكن في نفس مستوى كافة الطّاقم الحكومي. كما يجب التأكيد على أن فترة التشخيص للواقع التونسي إستغرقت وقتا طويلا قد يجد اسبابه في ضعف التواصل المسبق للعديد من الوزراء مع الراهن... وبدت حكومة التكنوقراط بعد تشخيصها للوضع الكارثي للبلاد وكأنها تراجعت أمام جسامة المسؤولية وخشيت ان تزعج الطبقة السياسية بجرأتها وخيّرت لوقت طويل تنظيم استشارات لم تكن دائما تتسم بالاعداد المسبق والمحكم فلم يفض عملها إلى اعتماد حتى ما قلّ من الإصلاحات الهيكلية التي يحتاجها الاقتصاد التونسي سواء كان ذلك على مستوى المالية العمومية أو على مستوى القطاعات الاقتصادية أو المؤسسات العمومية ... وحتى يكون تقييمي عادلا وموضوعيا يجب الاعتراف لهذه الحكومة بشجاعة تعاملها مع آفة الاٍرهاب بالتنسيق مع البلدان الشقيقة والصديقة ووضعها مصلحة تونس فوق الاعتبارات الحزبية الضيقة... أما بخصوص الإصلاحات الاقتصادية فإن عمل الحكومة كاد يقتصر على التقليص من عجز صندوق الدعم والضغط على التهريب الجبائي .. وهي أمور هامة لا يمكن التغافل عنها أمّا ما بقي من إصلاحات فكأنّ الحكومة انتظرت الوقت بدل الضائع لمحاولة تمرير قوانين تعهدت بها الحكومات المتداولة على السلطة منذ الثورة دون أن تتجرأ أيّ منها على تفعيلها. إن ظروف تعيين الحكومة القادمة ستكون مختلفة عن سابقتها إذ ان مدتها الزمنية لن تكون محدودة بل مرتبطة بأدائها وستتزامن مع خروج تونس من المؤقت ووجوب الاستجابة للمطالب الشرعية لشباب تونس وفي نفس الوقت سيتحتم عليها إعادة إرساء الثقة مع الأطراف المانحة ومؤسسات التمويل الدولية.