بقلم : فؤاد العجرودي شكّل انبعاث الجيش الوطني في مثل هذا اليوم منذ عام 1956 أي شهرين بعد تحصيل الاستقلال، حدثا بالغ الأهمية في مسار استكمال أركان «السيادة الوطنية» تتويجا لتضحيات جسيمة بذل من خلالها الشعب التونسي الغالي والنفيس وسيلا من الدماء الزكية بلغت ذروتها مع اندلاع معركة التحرير الوطني عام 1952. ولا شك أن إحياء الذكرى 59 لانبعاث الجيش الوطني هو محطة استثنائية لاستحضار تلك التضحيات الجسام التي بذلها أجدادنا وآباؤنا للانعتاق من براثن الاستعمار والتخلف واسترداد «الكرامة» كاملة غير منقوصة والمضي قدما في بناء الكيان الأعظم أي الدولة التونسية الوطنية والعصرية حجرا حجرا... وهو ما شكل ملحمة متفردة قادها لفيف من الرجال البررة في مقدمتهم الزعيم «الحبيب بورقيبة» الذي عرف كيف يثير في التونسيين واعز «الكرامة». تضامن وقد يكون استحضار تلك الملحمة التي جسمت وحدة التونسيين وتضامنهم في أعمق تجلياتهما بمثابة النبراس الذي ينير الطريق حتى تستعيد الدولة الوطنية الرسمية كامل عافيتها والمجتمع صلابته ومناعته الذاتيين ضد سائر أشكال التهديدات واحتمالات الارتداد إلى التخلف في زمن تداخلت فيه السبل وأعاد إلى الواجهة تلك العبارة التي قالها بورقيبة يوما ما «إنما أخشى على تونس من أبنائها»؟! عيد الجيش هو أيضا مناسبة لاستحضار ملاحم المؤسسة العسكريةوصولاتها وجولاتها في الداخل والخارج على مدى ستة عقود.. ثم أخيرا ذاك «العناد» الذي أثبته الجيش الوطني في معركته ضد الإرهاب ألا ثم مجددا بذلك تفاني أبنائه اللامحدود واللامشروط في الذود عن حرمة الوطن. مراحل ساخنة ذاك التفاني الذي جعل المؤسسة العسكرية بمثابة صمام الأمان في مراحل ساخنة من تاريخ تونس الحديث ولا سيما التوترات الداخلية مثل أحداث 1967 التي أعقبت هزيمة العرب ضد إسرائيل والأحداث النقابية في جانفي 1978 وأحداث «الخبزة» في جانفي 1984.. وهي كلها أحداث تطلبت نزول الجيش إلى الشوارع ومقرات السيادة لحماية الأفراد والممتلكات وهي مهام نجح فيها إلى أبعد حدود بفضل عنصريْ الحيادية والثقة.. التي قد تكون بلغت ذروتها في خضم الفراغ الرهيب الذي حملته أحداث جانفي 2011 والذي عالجته المؤسسة العسكرية بكثير من الحكمة وفيض من الصبر ولم تقحم نفسها في صراع السلطة الذي قاد إلى معادلة زادت في إرباك أوضاع البلاد قبل أن تحمل الانتخابات الأخيرة زخات من الأمل مازالت تحتاج إلى جهد كبير حتى تتحول إلى غيث نافع للبلاد والعباد. هجومات مباغتة صدّ الجيش الوطني من جهة أخرى الهجوم المباغت على قفصة من قبل «كومندو» تدرّب على الأراضي الليبية عام 1980 كما طوق بنجاح حادثة سليمان عام 2006 فيما سعى رغم محدودية المعدات إلى صد العدوان الإسرائيلي الغاشم على القيادة الفلسطينية في حمام «الشط» عام 1985. المؤسسة العسكرية كانت لها أيضا بصماتها في مسار التنمية الشاملة للبلاد ومن مآثرها في هذا الإطار تلك الأراضي الشاسعة والقاحلة التي غمرتها الحياة في منطقة رجيم معتوق جنوب البلاد وتحولت إلى أراضي خصبة تنتج كل شيء تقريبا بما في ذلك العنب.. في عمق الصحراء.. كما جرت العادة أن يتكفل الجيش بمشاريع البنية الأساسية في المناطق النائية نظرا لضعف إقبال المقاولات الخاصة على إنجازها.. وأذكر في هذا الصدد تلك الطريق السريعة التي بسطها الجيش الوطني بين مطماطة القديمة ومدينة دوز على مسافة 100 كلم تقريبا والتي تتجاوز في جودتها ومعايير استدامتها حتى الطرقات السيارة. إشعاع خارجي الجيش الوطني هو أيضا أحد مكونات إشعاع تونس في محيطها الدولي بفضل بصماته المتميزة في الجهود الأممية لحفظ السلام في الكثير من بؤر التوتر لا سيما في القارتين الإفريقية والآسيوية.. والتي جعلت منه نموذجا للحيادية والكفاءة التي تجعله يحظى بثقة كل الفرقاء في أي موقع ساخن وطأه. ويمثل الجيش الوطني من جهة أخرى مكونا بارزا من مكونات منظومة التكوين الوطنية حيث يفتح سنويا الباب أمام أفواج من الشباب لتعلم مهارة تيسر اندماجه لاحقا في الجيش الوطني أو تمنحه ورقة العبور إلى سوق الشغل. ورغم محدودية معداته فإن الكفاءة العالية للعسكريين جعلتهم يحققون بإمكانياتهم الذاتية عديد المكاسب الهامة على غرار قاعة متنقلة لإجراء العمليات الجراحية وتجديد العديد من معدات النقل بالاعتماد على مخزون قطع الغيار المتأتي أساسا من الصعوبات التي أحيلت على التقاعد. مكافحة الألغام كما نجح الجيش الوطني في تطهير البلاد من بقايا ألغام الحرب الكونية الثانية من خلال مجهودات متواصلة تسارعت خاصة عقب توقيع تونس على الاتفاقية الدولية لمكافحة الألغام في نهاية تسعينات القرن الماضي. بالمحصلة لقد تميزت المؤسسة العسكرية على امتداد تاريخ تونس الحديث بعطاء غزير على كل الأصعدة وبلا حسابات زادهم الوحيدفي ذلك روح التفاني في خدمة الوطن تلك الروح التي تجعلني على يقين تام في أن تلك المؤسسة الأمنية ستدحر بقايا الإرهاب ولو بعد حين. فيما خاضت تونس معركة التحرير عام 1952 بلفيف من المتطوعين أو ما يعرف ب«الفلاقة» فإنها تخوض اليوم معركة تحرير جديدة بجيشها النظامي، إن التاريخ يكاد أن يعيد نفسه.