جالستها لمدة فاقت الساعة دون أن أشعر بالوقت وهو يسرع لا يلوي على شيء ... ضحكنا طويلا وهي تروي لي مغامراتها بين الغابات والجبال والبحار تطبيقا.. وفي المخابر والقاعات والمدارج نظريا في اختصاصها مجال « الجيولوجيا» بكلية العلوم بتونس لتختم مسيرتها كأروع ما يكون وتنال «الماجستير» بملاحظة حسن جدا.. شهادة تعبت طويلا من أجلها. «صدّقني لولا صبري ومداومتي ومثابرتي لرميت المنديل» ...اختصرت الكلام ثم نظرت إلى الافق البعيد وكأنها تستحضر شريط دراستها الجامعية ... تمتمت ثم عادت لتتحدث في إصرار ...«خمس سنوات ناضلت فيها كأحسن ما يكون لم أتأخر فيها إطلاقا أحصد النجاح تلو النجاح بفضل إيماني بقدراتي ودعم والدتي التي لم تكل ولم تمل على حساب صحتها وراحتها وتشجيع أخواتي الذي لم ينقطع»... أخذت منها الكلمة بلطف ولكنها استسمحتني وعادت لتقول لي منتشية: «أشكر في المقام الأوّل مؤطّرتي في شهادة الماجستير الاستاذة «نبيلة حلواني» التي كانت أحد عوامل نجاحي دون أن أنسى ما حييت دعم الدكتور «المنصف قدّاري» الذي وجدنا في مخبره كل وسائل العمل والانجاز والتطبيق وجعلته قدوتي للنجاح. بعدها غصنا في أجواء الدراسة الجامعية وما تتطلبه من صبر وطول نفس وحسن تنظيم للوقت وذكرت لي ما قاسته من أهوال وتعب وخوف عند تنقلها من بيتهم إلى كلية العلوم في الحافلة الصفراء وفي سيارات الأجرة وأحيانا على الأقدام لما يعسر العثور على وسيلة النقل في مواسم الأمطار وحلول الظلام .. وأكدت لي أن ما عاشته من أتعاب جعلها تصرّ على التألق والامتياز. «سنتي الأولى في كلية العلوم تزامنت مع ثورة 14 جانفي بكل أحداثها.. لم أمكث في البيت بل واجهت كل شيء لأكون من القلائل الحاضرين في قاعة الدرس وفي مدرج المحاضرات حتى لا تفوتني شاردة ولا واردة رغم أن أبي وهو إطار أمني ظل متغيبا عن المنزل طويلا ... كنت أحسّ بوجوب تواجدي في ساحة العلم والمعرفة حتى أقطع على المارقين والجانحين التمرّد وضرب كل ما هو جميل في تونس الوطن». وهي تحادثني كنت منتشيا بثقافتها العلمية وبتوقها إلى تحقيق الأفضل والسير بخطى ثابتة نحو نيل شهادة «الدكتورا» هدية لوالدها النقيب «حوسين الجبالي» قدوتها في العمل وحبّ النجاح.. نظرت لي ونزلت الدموع من عينها.. لم أقطع بكاءها احتراما لمشاعرها .. شجعتها على الكلام فهمست مثل العنادل.. «لما كنت بصدد انجاز مذكرة الماجستير كان أبي بين الثكنات والجبال والشوارع من العاصمة إلى سوسة.. من الشمال إلى الجنوب يجابه الارهابيين وكنّا لا ننام الليالي نظل ساهرين لنتابع أخباره. وكلما عاد إلينا بعد ايام الغياب شعرنا بنشوة لا تضاهيها نشوة طالما الدفاع عن الوطن واجب مقدّس .. لهذا فأنا أهديه من قلبي شهادة الماجستير .. ومنه إلى رجال الأمن تحيّة حب وتقدير .. فأنا ابنتهم ... منهم وإليهم».. ثم عادت إلى بكائها بدموع حارة.. هي حتما دموع النجاح والتألق لقاء العمل ورضاء الوالدين.