25 العراق «في الصندوق» والجيش يشهد مجزرة تاتشر للملك حسين:«أنت تراهن على الطرف الخاسر» هكذا أجبرت الشركات الفرنسية ميتران على تغيير موقفه في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف أن هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. على ضوء « فتيلة» غزو الكويت تحرّك جهد واشنطن على عدّة محاور: المحور الأول - الاستفادة من صدمة غالبية العرب - على المستوى الرسمي والشعبي - بمفاجأة غزو الكويت، وهنا فإنها بادرت إلى استغلال هذا الشعور لتثبت أرضية عربية تؤسس لمشروعية ضرب العراق. وكان المطلوب هو الإسراع بتجهيز هذه الأرضية قبل أن يتبدد أثر الصدمة، أو يراجع العراق تصرفه عندما يرى النذر، أو يتمكن من تحويل الأغلبية التي تعارض تصرفه إلى أغلبية تسكت عليه بأمل أن تتمكن القدرة العراقية المتضخمة من دور فاعل في الصراع مع اسرائيل. وكان المحور الثاني التأكد - وقد دخل العراق إلى الصندوق - أنه لن يخرج منه، وهنا فإن الضغط الأمريكي كان صارما للحيلولة دون حلّ عربي لأزمة غزو الكويت. وهنا جاءت - للإنصاف - محاولة ملك الأردن« حسين» (مع التسليم بأنه في ما سعى به كان يحاول الحفاظ على وحدة الأردن وعلى عرشه، وعلى مستقبل أسرته وربما فرصها في عرش هاشمي في العراق ذات يوم) - وكان أن الملك « حسين» ( كذلك قال لي وأكد - وساندته في ما قال وأكد - وقائع ووثائق صحيحة)، توضح أنه توصل إلى إقناع القيادة العراقية يوم 5 أوت - بعد أن لمعت البوادر والنذر - بأنها إذا لم تنسحب من الكويت فسوف تواجه ما لا طاقة لها به، وكان شرط العراق في طلب الأمان - صدور تعهد أمريكي بأن الولاياتالمتحدة لن تطارد الجيش العراقي في وطنه - إذا عاد وراء حدوده وترك الكويت. لكن البيت الأبيض مارس كل نفوذه لقطع الطرق ومنع أي مخرج عليها، وكان مؤتمر القمة العربي في القاهرة يوم 10 أوت، وأجواؤها وملابساته بمثابة عملية إغلاق للصندوق حول العراق بالمفتاح وبالترباس! وكان المحور الثالث تكثيف الحشود حول العراق، وكذلك راحت الفرق المدرعة وحاملات الطائرات وقواعد الصواريخ الأمريكية - تتسابق إلى اتخاذ مواقعها في القواعد والتسهيلات العربية ابتداء من يوم 6 أوت أي من قبل انعقاد القمة العربية، وكان شكل الحشود قاطعا أنها الحرب ليس فقط لتحرير الكويت، ولكن - بالدرجة الأولى - لتدمير القوة العراقية والسيطرة على مقدرات ذلك البلد، وفي أواخر سنة 1990 كانت الحشود العسكرية الأمريكية البريطانية (ومعها تشكيلات متحالفة من كل مكان) تحكم حصارها حول العراق بطوق حديدي. وكان الملك «حسين» لايزال يبذل مساعي يعرف أكثر من غيره أنها يائسة، وجرى بينه وبين السيدة «مارغريت ثاتشر» رئيسة الوزارة البرطانية لقاء عاصف في مقر رئاسة الوزارة في لندن، فقد جلس الملك أمام المرأة الحديدية، يقول لها بعد المقدمات «أنه يريد أن يشرح لها النتائج التي يمكن أن تترتب أن عن غزو العراق وتدميره». وإذا ب «مارغريت ثاتشر» تهب في وجهه صارخة: «اسمع ... أريدك أن توفر على نفسك حججك السياسية والقانونية، وتعرف أنك تضع رهانك على الطرف الخاسر، ثم صاحت فيه«أنت تراهن على الخاسر» «You are backing a loser» وكانت عيناها تبرقان بالغضب، وأحس ملك الأردن أنه أهين، وقال بأدب محاولا ضبط غضبه «سيدتي... لا يحق لك أن تتحدثي إليّ بهذه اللهجة». وقصد الملك بعد لندنالولاياتالمتحدة يلتقي الرئيس «جورج بوش» (الأب) في ضيعته «كينيبنكبورت» بولاية «ماين»، وقال له وهما يمشيان قرب شاطئ البحر «إنه يخشى من اندلاع نار مدمرة في المنطقة»، ورد عليه «بوش» (الأب) بقوله «إنه يعرف أن النار سوف تندلع، لكنه حريص على ألاّ يحرق الملك أصابعه بلهبها». وكان المحور الرابع هو تشكيل تحالف عالمي واسع لشن الحرب على العراق، وهنا أصدر مجلس الأمن مجموعة قرارات لفّت الصندوق العراقي بسلاسل من الفولاذ حتى لا يدخل إليه ولا يخرج منه شيء، وكان الطوق اقتصاديا وسياسيا ودعائيا بحبكة لم يسبق لها مثيل ، وعندما توقفت كل أنابيب ضخ البترول العراقي عبر تركيا وسوريا والسعودية ،فقد بدا أن العراق - داخل الصندوق الفولاذي - يتعرض لعملية خنق تمهد للضربة القاضية عندما يجيء دور السلاح. وكانت الولاياتالمتحدة قاسية مع الجميع، خصوصا هؤلاء الذين بان ترددهم من الأطراف الدوليين، وأولهم فرنسا (واضطر الرئيس «ميتران» إلى تغيير موقفه الذي مال إلى الاعتدال ولو قليلا، لأن ممثلي الشركات الفرنسية الكبرى ذهبوا إليه شاكين أن سياسة فرنسا سوف تحرم شركاتها من أكبر العقود في التاريخ، وهي عقود الامتيازات في بترول العراق وعقود المقاولات لإعادة تعميره)- ولذلك شاركت القوات الفرنسية في الحشد العسكري الكبير المحيط بالعراق. وكان المحور الخامس هو شن الحرب فعلا ابتداء بتمهيد جوي تواصل أكثر من أربعين يوما، ولم تكن القيادة العراقية تتصور إمكانيات الحرب الإلكترونية عندما يطلق لها العنان، وكان ظنها أنها سوف تستطيع ممارسة مقاومة مؤثرة اعتمادا على ما لديها من إمكانيات. وحدث في «فترة الريبة» قبل أن تفتح المدافع فوهاتها - أن رئيس وزراء بريطانيا الأسبق «إدوارد هيث» قصد إلى بغداد وقابل الرئيس «صدام حسين» وقال له ضمن مال قال «أنكم لا تعرفون حجم الأسلحة الأمريكية التي تستطيع الولاياتالمتحدة أن تستعملها ضدكم»، وكان الرد الذي سمعه «إن الولاياتالمتحدة تعرف حجم الأسلحة التي يستطيع العراق أن يقاوم بها». لكن الحرب عندما جاءت أظهرت أنه مهما كان ما تملكه دولة في العالم الثالث (حتى وإن حصلت على معظمه من شركات أمريكية أو أوروبية) - محسوب كله في إطار لا يتجاوزه، وأن ترسانات القوة العظمى( بالتحديد الولاياتالمتحدة) - تحتوي على ما هو قادر عليه! وكان المحور السادس أنه عندما انكسرت مقاومة العراق، وبان أن الحرب البرية بعد الضربة الجوية مجزرة شنيعة - راح بعض ملوك ورؤساء الدول العربية (وهم أطراف تحالف فيها) يظهرون قلقهم من الاستمرار أكثر من ذلك في مواصلة المذبحة. وتشاور الرئيس «جورج بوش» (الأب) مع كبار مستشاريه وبينهم هيئة الأركان المشتركة، وكان رأيهم - وفيهم «كولين باول» أن الحرب حققت أهدافها، لأن الضربة الجوية دمرت فعلا معظم السلاح العراقي، وأما بالنسبة للنظام في بغداد، فإن ثورة محققة (شيعية في الجنوب - كردية في الشمال) سوف تتكفل ببقية المطلوب، وفي أرجح الاحتمالات فإن الجيش العراقي سوف يقوم بانقلاب على قيادة ورطته في حرب غير متكافئة، وحينئذ تقوم في بغداد حكومة جديدة ترضى بالشروط السياسية للمنتصر ( بعد قبول النظام الحالي بالشروط العسكرية اللازمة لوقف إطلاق النار) - ثم إنه لن يكون في وسع هذه الحكومة العراقية الجديدة أن تفعل شيئا ، سوى أن تفتح الأبواب لعهد جديد مع الولاياتالمتحدة، وحينئذ يتحقق تغيير النظام، وبعده استدعاء أمريكي إلى قلب بغداد. والمحور السابع أن آلة الإعلام الأمريكية الضخمة - وكذلك أجهزة العمل السرى راحت تحرض الجنوب الشيعي والشمال الكردي على الثورة، وبدا لعدة أسابيع أن النظام في بغداد معزول، لكنه في نفس تلك اللحظة وقعت معجزة لم تكن في حساب أحد ، ذلك أن الجيش العراقي الذي رأى وحدة الوطن العراقي توشك على الانفراط قبل أن يتحقق سقوط النظام - بذل جهدا خارقا للعادة في مقاومة الثورة جنوبا وشمالا، وتمكن من السيطرة على الوضع. وفي ظرف شهور قليلة، بان أنّ الحرب لم تحقق كامل أهدافها، فقد وقع تدمير الاقتصاد العراقي، واستهلاك قوة الجيش العراقي وسلاحه، لكن النظام تمكن من البقاء، كما أنّه على وجه القطع ظل يسيطر على قوة لها شأن، مع التسليم بأنها توازي نصف حجمها السابق وربع سلاحها!