23 - خطأ حسابات صدّام وفخّ الكويت في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف أن هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. حتى ربيع 1990 (رئاسة «بوش» الأب) كانت «المناقشة الكبرى» مازالت جارية في واشنطن تتجاذبها الاجتهادات والتقديرات، وفي ذلك الوقت ظهر في مجلس الأمن القومي رأيان: 1 رأى يمثله «الحمائم» من دعاة التحفظ (وزير الخارجية «بيكر» -ومستشار الأمن القومي «سكوكروفت»- ورئيس الركان «باول»)، ومجمله أن السيادة الأمريكية المطلقة على العالم مستحيلة، والأفضل منها قبول سيادة نسبية تسمح بوجود شركاء آخرين بأنصبة محدودة، خصوصا مع الأوروبيين -وفي إطار الحلف الأطلسي بعد إعادة تنظيمه بقيادة الولاياتالمتحدة بطريقة تتناسب أكثر مع ضرورات ما بعد الحرب الباردة. 2 ورأى آخر يمثله «الصقور» دعاة الاندفاع، ومنطقهم «أن الولاياتالمتحدة لم تتحمل - وحدها - مسؤوليات الحرب الباردة وأعبائها، لكي تقبل الان شراكة تزاحمها على جوائز النصر، خصوصا من أوروبا التي غازلت الاتحاد السوفياتي (كما فعلت فرنسا في عهد «ديغول» وحلفائه) - أو حاولت استرضاءه (كما فعلت ألمانيا بسياسة التوجه شرقا كما حدث أيام المستشار «ويلي برانت» ، ومن حذوا حذوه حتى «هيلموت كول»)». 3 ثم ان الموقع الأكثر سخونة في العالم الجديد وهو الشرق الأوسط مفتوح بالكامل أمام الولاياتالمتحدة، «بما في ذلك ان كافة الأطراف فيه يطلبونها بالتخصيص ولا يعبؤون بغيرها (باعتبار ان العرب يأملون في ضغط أمريكي على اسرائيل في حل لقضية فلسطين، ولا يعولون كثيرا على أوروبا، بل ويرفضون الاعتراف لها بدور مؤثر)، ثم ان النفوذ الأمريكي في الخليج بأسره طارد لغيره - كما ان النفط وهو عماد أي مستقبل موجود فعلا في حوزة شركات أمريكية عاملة في المنطقة، والشاهد ان الدول المؤثرة في الإقليم، وأهمها مصر وتركيا ( وبالطبع اسرائيل) - تتسابق في ما بينها على الحظوة في واشنطن ولا تطلب غير الرضى والقبول». وإذن (كذلك رأي الصقور) - فإن الولاياتالمتحدة ليس لها الحق اذا ترددت، وليس لها العذر إذا تخلت. وكانت المناقشات في مجلس الأمن القومي لا تزال محتدمة - بينما مختلف الأجهزة الأمريكية السياسية والأمنية في المنطقة - بضرورات الاستمرار في الإدارة - تمارس مهامها على مسؤوليتها حتى يبلغها قرار نهائي. وطالت المناقشات بين الحمائم والصقور، وطال الجدل بين التحفظ والاندفاع، وحلت في المنطقة حالة ارتباك شديدة بين سياسات تنتظر قرارات من واشنطن - وبين أجهزة سياسية وأمنية تتحرك وفق اجتهادها على الأرض في منطقة الشرق الأوسط، وسط أجواء شديدة الفوران (بعد انتهاء الحرب الباردة، واختفاء العدو السوفياتي التقليدي الذي تصدّى أربعين سنة وأكثر) - كل ذلك مع تصورات أطراف خطر لها أن أمامها فرصا متاحة لكسب أرض جديدة ومواقع أكثر تقدّما. وفي هذه اللحظة بالتحديد وقع خطأ الحسابات في بغداد، فجر يوم أول أوت سنة 1990 حين قررت القيادة العراقية ضم الكويت، ليصبح المحافظة التاسعة عشرة للعراق، ولم يكن القرار في حقيقته مجرد قيام بلد عربي باجتياح حدود بلد عربي آخر (مهما كانت الذرائع)، وانما كان جوهر الحقيقة أن خطا أحمر وقع تجاوزه، وفي مناخ لا يسمح لطرف بالتجاوز، وفي ساعة مفتوحة على كل الاحتمالات! سمعت رئيسة الوزارة البريطانية «مارغريت ثاتشر» أكثر من مرة تحكي عن دورها الحاسم في تشجيع الرئيس الأمريكي «جورج بوش» (الأب) على الوقوف بحزم في وجه الغزو العراقي للكويت، وكيف ان ضغطها عليه بشدة - الى درجة التأنيب - عندما لاحظت تردده (كذلك قالت) - حتى يرسم خطه المشهور على الرمل قائلا: «ان ذلك لا يمكن قبوله!» (يقصد غزو الكويت). وفي رواية «مارغريت ثاتشر» أنها كانت يوم 2 أوت 1990 على موعد للقاء «جورج بوش» في إطار مؤتمر مغلق (أمريكي - بريطاني) ينسق الاستراتيجيات ويرتب الخطط بين البلدين، وكان المقرر عقد هذا المؤتمر في منتجع «آسبن» على سفوح مرتفعات كلورادر، وعندما علمت «مارغريت ثاتشر» بنبإ الغزو العراقي للكويت ساورها الظن بأن «جورج بوش» ربما يقرر البقاء في واشنطن لمتابعة الأزمة الطارئة، وكذلك سارعت الى الاتصال به تقول له (وفق روايتها) ما يكاد نصه أن يكون: «جورج - لا تؤجل مجيئك الى هنا مهما نصحك مستشاروك، فلا يصح ان يظن الرأي العام العالمي ان «طاغية شرقيا» أرغم رئيس الولاياتالمتحدة على التزام مكتبه وتأجيل ارتباطاته، عليك ان تضع الأمور في حجمها المناسب لها، فضلا عن ان ما جرى في الشرق الأوسط موضوع لا بدّ لنا ان نبحثه سويا، وقد كنت على استعداد ان أطير الى واشنطن للقائك، لكني عدلت لنفس السبب، حتى لا يظن أحد أنه أرغمنا جميعا على تغيير جدول أعمالنا». وتستطرد «مارغريت ثاتشر» «أن جورج جاء الى آسبن، وجلسنا معا وأحسست أنه «مخضوض» وان ركبه «سائبة» wobbly، وبعد ساعة ونصف الساعة تمالك «جورج» نفسه وأكد لي «أنه سوف يضرب بكل قوته»، - وأكدت له أننا معه!». وتستطرد «مارغريت ثاتشر» في روايتها قائلة «أنها كانت تقدر مبكرا ان هناك في الغرب خصوصا «أصدقاءنا عبر المانش في باريس» (تقصد الرئيس الفرنسي «فرانسوا ميتران» أيامها) - سوف يدعون الحكمة، ويطلبون الانتظار، ناسين درس «هتلر» و«موسوليني» في أوروبا (قبل الحرب العالمية الثانية) - لكي يستأنفوا إدمانهم لسياسة التهدئة، وأما هي فلم تكن - ولا تزال - من الرافضين لهذه السياسة إزاء العدوان، واعتقادها أن السكوت مرة معناه السكوت كل مرة والى آخر المشوار، لأن شهية الغزو تنفتح أكثر حين يهضم ما أكل - ويعود مطالبا بالمزيد!» والواقع - كما أظهرت الوثائق والشهادات الحية لاحقا - أن «مارغريت ثاتشر» كانت (أو على الأقل متفائلة) في حجم الدور الذي لعبته في تشجيع «جورج بوش» (الأب) على التصدي بالقوة لاحتلال الكويت. والحاصل أنه بصرف النظر عن كل الخطوط الحمراء التي اجتازها العراق فجر أول أوت 1990، حين اقتحم الأرض المحظورة لمواقع النفط في الخليج - ان «جورج بوش» لم يكن مفاجأ بالدخول العراقي الى الكويت، بل لعل العراق - بذاته وصفاته - لم يكن تلك اللحظة بعيدا عن أفكار مستشاري البيت الأبيض ولا عن تصوراته لشكل المستقبل في القرن الحادي والعشرين، الذي كان قرنا لا بدّ له في تقديرهم - وبأي ثمن- ان يظل قرنا أمريكيا تنفرد فيه أمريكا بالسيطرة على العالم - ولأول مرة - دون شريك. ومن ناحية أن البيت الأبيض لم يفاجأ، فمن المؤكد ان الأجهزة الأمريكية المعنية - وضمنها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والمخابرات العسكرية، ومكتب استطلاع القيادة المركزية التي يقودها الجنرال «نورمان شوارزكوف» كانت تتابع تحركات القوات العراقية، وترصد تقدم فرق الحرس الجمهوري لاتخاذ أوضاع هجومية حول منطقة البصرة، وكانت تلك الصورة كافية لتظهر بجلاء أن هناك نية، وان هذه النية على وشك ان تتحول الى خطة لاحتلال الكويت. واتصل رئيس الأركان «كولين باول» بالبيت الأبيض - يوم 25 جويلية 1990 يتشاور مع مستشار الأمن القومي للرئيس «برنت سكوكروفت»، في ما اذا كان الأوفق تكليف السفيرة الأمريكية في بغداد «أبريل غلاسبي» لطلب مقابلة عاجلة مع الرئيس العراقي حتى تلفت نظره بتحذير مبكر الى التزام أمريكي بحماية الكويت لكي يراجع حساباته، لكن «سكوكروفت» عاود الاتصال برئيس الأركان يبلغه بما استقر عليه الرأي بين مستشاري الرئيس وهو ان أي تحذير مبكر «للعراقيين» لا داعي له، وان القرار هو الانتظار «حتى نرى ما سوف يفعلون ثم نتصرف بما نجده مناسبا!».