32 بوش: أريد أن يمشي الجميع معنا في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف أن هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. عندما انتهت اجتماعات مجلس الأمن القومي وتوجه الرئيس إلى مكتبه - لحقت به مستشارته للأمن القومي - تعرض عليه بعض هواجسها: عادت تقول له إنها «تشعر من حولها بضباب، وهي تجاهد للتخلص منه حتى تستطيع المساعدة في تقدير ما يمكن عمله في اليوم التالي، وهي مهيأة لقبول أن المسؤولية تقع بالفعل على تنظيم القاعدة و لكن هناك أسئلة سوف تطرح نفسها على الناس: سوف يتساءل الناس - إذا كان تنظيم القاعدة هو المسؤول، فما الذي كانت الولاياتالمتحدة تعرف عنه - وعن نواياه - وإمكانياته؟ وماذا عرفت بالتحديد؟ ومتى عرفت ؟ ولماذا لم تتصرف؟». في الساعة السابعة صباحا يوم 12 سبتمبر، وصل «جورج تنيت» مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى البيت الأبيض ومعه التقرير اليومي للوكالة، لكنه في ذلك اليوم كان تقريرا من نوع خاص. كان الرئيس في مكتبه يتحدث مع مستشارته للأمن القومي، وبدا في حديثه معها أنه يريد إزاحة المسؤولية عن إدارته (ويضعها على سلفه «بيل كلينتون») قائلا: «إنه يعتقد أن إدارة «كلينتون» ردت على تحدي الإرهاب بتهاون شديد». ثم تساءل «بوش» «ما معنى أن يرد «كلينتون» على نسف السفارات الأمريكية في افريقا بإطلاق دفعة صواريخ موجهة إلى أفعانستان؟ - وأي رد هذا ؟ - وما الذي يمكن أن تحققه مثل هذه الضربات؟ حريق في خيمة؟ - هدم بيت من الطين بصاورخ من طراز «كروز» - هذه نكتة! يضيف «بوش» «لا بد أن نتصرف بقوة، وإلا اهتزت صورة أمريكا». وعندما دخل «تنيت» إلى المكتب البيضاوي، توقف « بوش» عن إبداء سخطة على سلفه ليسمع مدير مخابراته، وراح «تنيت» يتحدث ويقدم للرئيس قائمات بأسماء مسؤولين كبار في القاعدة يساعدون «بن لادن» من «أيمن الظواهري» إلى «أبو زبيدة»- إلى آخرين. ولم يكن «بوش» على استعداد لأن يدخل في مجاهل هذا العالم العامض للإرهابيين، وأحس « تنيت» أن رئيسه يتعجل النتائج ولا تعنيه التفاصيل وكذلك قال: «لدينا خطة لتكثيف نشاطنا حتى نتمكن من توجيه ضربات قاتلة للإرهابيين، لكن هذه الخطة تحتاج إلى اعتمادات مالية طائلة تصل إلى ألف مليون دولار، ورد «بوش» بسرعة «سوف أعطيك كل ما هو لازم لمهمتك». وأوضح له «تنيت» أن مهته مهما نجحت - محصورة في معرفة أكثر ما يمكن معرفته عن الارهابيين، ثم اختراق تنظيماتهم، وإلحاق الضرر بهم إلى أقصى حد، لكن الضربة القاضية القاتلة لا بدّ أن تكون بواسطة العمل العسكري، وهذه مهمة القوات المسلحة!». بعد انتهاء اجتماع مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض (يوم 12 سبتمبر)، عاد الرئيس«بوش» إلى مكتبه، ومشت بجواره «كارين هيوز» مستشارته للشؤون العامة، التي كان يريد أن يتحدث معها عن لغة «الخطاب العام للإدارة» في الأيام القادمة، وعندما استقر وراء مكتبه قال لها : «إنه يريد عقد اجتماعات يومية لتشكيل وتوجيه الرسالة التي يريد توجيهها إلى الشعب الأمريكي عن الحرب ضد الارهاب!». وبادرت تسلمه ورقة تحتوي على ملاحظات يصح له إبداؤها أثناء اجتماع مقرر له مع قيادات القوات المسلحة سوف يحضره في البنتاغون بعد ظهر ذلك اليوم، ووضع «بوش» الورقة على مكتبه، وعاد يوجه الحديث إلى «كارين هيوز» قائلا:«دعينا أولا نتفق على الصورة الأوسع، نحن أمام عدو ليست له ملامح(Faceless)، وهذا العدو أعلن الحرب على الولاياتالمتحدة، إذن نحن في حرب».ثم يستطرد: «إننا في حاجة إلى خطة - إلى استراتيجية - إلى رؤية ، ولا بد لنا أن نعلم الشعب الأمريكي كيف يستعد لهجوم آخر ؟ - الشعب الامريكي يحتاج أن يفهم أن الحرب على الارهاب هي المحور الرئيسي لجهد الإدارة وللحكومة من الآن فصاعدا». وردت «كارين هيوز» بأنها سوف تذهب إلى مكتبها لتحضير بعض النقاط عن هذه «الرسالة»، وكتابتها على ورق، ثم تعود بها إلى الرئيس. وتوجهت «كارين» بالفعل إلى مكتبها في الدور الثاني، وفتحت جهاز الكمبيوتر واستعدت للكتابة، لكن الرئيس طلبها إلى العودة فورا، وحين دخلت إلى المكتب البيضاوي بادرها بقوله: «دعيني اليوم أقول لك كيف يجب أن تؤدي عملك» - ثم ناولها ورقتين من أوراق مكتبه عليها بخط يده «مجموعة أفكار» (كذلك وصف الورقتين)، وراحت «كارين» تقرأ: «هذا عدو يضرب ويختفي ، ولكنه لن يستطيع الاختباء منا إلى الأبد. هذا عدو يتصور أنه في مكمن آمن، لكنه لن يظل آمنا إلى النهاية. هذا عدو لم نتعود على مواجهته ، لكن أمريكا سوف تتأقلم على الحرب معه». وأضاف «بوش» : «والآن عودي إلى مكتبك لتجهزي نفسك!». في اجتماع ثالث لمجلس الأمن القومي (خلال يومين)، استمع الرئيس «بوش» إلى تقارير عدد من مساعديه، ثم انفض الاجتماع بعد نصف الساعة، لكن الرئيس استبقى ستة منهم لجلسة محدودة. وفي بداية هذه الجلسة المحدودة توجه «بوش» بنظره إلى «كولين باول» الذي رد على النظرة بجواب - قائلا: «إن وزارة الخارجية بدأت فعلا في نقل رسالة الرئيس إلى حكومة باكستان ونظام طالبان »- «إما أن تكونوا معنا - أو أنكم ضدنا». وقال «بوش» :« إنني أريد إعداد قائمة بما نريده من طالبا، لا يكفيهم أن يسلموا لنا «بن لادن» - نحن نريد كل تنظيم القاعدة، إما أن يسلموهم لنا مباشرة، وإمّا أن يطردوهم من عندهم، ونحن نقوم بالقبض عليهم فور خروجهم». وتدخل «رامسفيلد» بقوله : «من المهم بالنسبة لنا أن نحدد أهدافنا الآن، فمن الضروري أن نتوافق في عملنا مع شركائنا في التحالف ضد الارهاب، والذي وقع أعضاؤه اتفاقا معنا لمواجهة خطره»، ثم زاد «رامسفيلد» «كل شركائنا في التحالف سوف يطلبون منا معلومات محددة وتوصيفات مقبولة ومازلت ألحّ على أن هناك إجابات مطلوبة على أسئلة مطروحة مثل : هل حربنا هي ضد «بن لادن» والقاعدة فقط - أم هي ضد الإرهاب بالمعنى الأوسع؟». وكان «كولين باول» هو الذي استبق الرئيس برد قال فيه : « الهدف حرب ضد الإرهاب بالمعنى الأوسع - والبداية ذلك التنظيم الذي قام بالعمل المباشر الذي تعرضت له الولاياتالمتحدة أول أمس». وتدخل «تشيني» نائب الرئيس ليقول: «الهدف حرب ضد الارهاب بالمعنى الأوسع، أي الارهابيين والذين يناصرونهم - لكن عليك أن تلاحظ أنه سوف يكون من الأسهل علينا العثور على مناصري الارهاب أكثر من العثور على الارهابيين انفسهم». ورد «بوش»: «لنبدأ بالعثور على «بن لادن» ، فذلك ما توقعه الشعب الأمريكي، وإذا نجحنا فإننا نكون قد وجهنا ضربة قوية إلى الارهاب بالمعنى الأوسع، نحن أمام «سرطان» ولا بد من استئصال الورم، وإذا بدأنا الحرب على الارهاب بالمعنى الأوسع فلن يكون في مقدور الرجل العادي في أمريكا أن يتفهم ذلك». والتفت« بوش» إلى «رامسفيلد» يسأله: «هل توصلتم إلى تحديد ما نستطيع عمله عسكريا - في أسرع ما يمكن؟! ورد «رامسفيلد» :« لم نجد غير قليل جدا، مما يمكن أن يؤثر». ثم روى وزير الدفاع أنه بالأمس استدعى الجنرال «تومي فرانكس»(قائد القوات المركزية الذي قاد الحرب على العراق) - وسأله عن استعداده للعمل ضد تنظيم القاعدة وضد طالبان إذا أصبح ذلك ضروريا. ورد «فرانكس»: «أن القيادة المركزية تحتاج إلى عدة شهور لرسم خطة عمليات واسعة في أفغانستان»، وعندها قاطعة وزير الدفاع بقوله « لديك فرصة أيام وأسابيع على الأكثر - ليست لديك فرصة شهور!» - وهنا بدا الضيق على قائد القيادة المركزية وقال : «إننا نحتاج إلى قواعد نعمل منها، وإلى حشد يكفي للمهمة التي نطلبها، وإلى خطوط مواصلة مأمونة نتحرك عليها وإلى أشياء كثيرة ، لأن أفغانستان في منتصف الكرة الأرضية على الناحية الأخرى من العالم ، مع العلم أن القاعدة تنظيم حرب عصابات، وأعضاؤه مختفون في الجبال ، وهم يستعملون البغال في جر المدافع والعربات، ومعسكراتهم - بما في ذلك معسكرات التدريب - خالية ليس فيها شيء». وأضاف «رامسفيلد» : «إنني قلت لقائد القيادة المركزية ، إننا نريد أفكار خلاقة شيئا ما بين إطلاق صواريخ «كروز» وبين حرب واسعة. وتدخل «بوش» في مجرى الحديث ليقول : إنّ توني بلير» ( رئيس وزراء بريطانيا» اتصل بي على التليفون صباح اليوم الباكر يقول لي «إن العالم ينتظر منا عملا قويا، وليس مجرد إجراءات لتهدئة مشاعر الرأي العام الأمريكي، وتجعله يحس أفضل!». وكان الرئيس «بوش» على وشك أن يستقبل زعماء الكونفغرس، لكنه قبل مجيئهم إلى البيت الأبيض اتصل بنفسه بكل من الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، وبرؤساء فرنسا وألمانيا وكندا والصين، ثم ترك مهمة الاتصالات ببقية الحلفاء إلى وزير الخارجية، قائلا له : إنني أريد أن يمشي الجميع معنا، لكنني على استعداد للمشي وحدي إلى آخر الشوط إذا اقتضى الأمر». ثم خرج الرئيس إلى الصحفيين يقول لهم سوف يكون هذا صراعا هائلا بين الخير والشر - لكن الخير سوف ينتصر!».