23 سنة من الخوف والكبت والقهر مرت دون أن نشعر بها أو نشتم نسيمها وكأن كل ما قيل عن سنوات الظلام التي لحقت بنا وغيبت شمسنا وقتلت فينا روح الحياة لم تكن سوى مجرد حلم يقظة أفل بمجرد بزوغ فجر الحرية... و كنا والحق يقال نتلذذ بصمتنا وجبننا لأنه كان هناك هاجس كبير بداخلنا يترصدنا ويرسم لنا حدودا حمراء من المحظور تجاوزها...نمنا ونمنا وغضضنا البصر عن كل ما يدور من حولنا حلالا كان أم حراما ولم يجرؤ احد فينا على النبس ببنت شفة فقد كان المخلوع وأزلامه يحكمون على مداخل الحياة فينا وعلى مخارجها بقبضة من حديد فاكتسبنا شرعية جبننا وخوفنا وانتظرنا إلى حين يأتي الخلاص عسى ان نستعيد لذة البصر ومتعة الحياة والقدرة على الكلام... وكنا نمني النفس برحيل الطاغية وبزوال روائح ديكتاتوريته الكريهة وكنا نرسم في مخيلتنا طقوسا وبنيانا شامخا لدولة فاضلة لا يجوع فيها الذئب ولا يشتكي الراعي و فعلا رحل المخلوع إلى جوار ربه ليس في الجنة معاذ الله بل على مشارف الحرمين الشريفين و صدقت نبوءتنا وبدأنا عهدا جديدا... أموات الأمس بجبنهم وخوفهم وانبطاحهم عادوا بيننا إلى الحياة, هكذا هي سنة الحياة...فرّ المخلوع وحل مكانه تجار الخراب ومرتزقة الموت وسكان الظلام,عادوا ليسرقوا فرحتنا بثورتنا المجيدة و ليتاجروا بما تبقى لنا من كرامة وعذرية وحياء...اعتصامات...فوضى...ميليشيات...اتهامات...لوبيات...هيئات وأغلبيات وأقليات وجهويات... جلسات ونقاشات وحوارات و و و في الأخير كلها مجرد مسرحيات تحاك فصولها باسم الديمقراطية وتشرع لميلاد دستور جديد وعهد جديد شبيه بعهد التغيير وكأن التاريخ يعيد نفسه بنفس الأدوات مع اختلاف التسميات...رحل بن علي لكن من سوء حظنا ومن حسن حظهم لم ترحل فلسفته ولم يرحل مرتزقته وبقيت منظومته تؤثث لمستقبل سياسي كلما اقترب أصبح مخيفا أكثر يستمد أنفاسه من روح صانع التغيير وفكر الزعيم الأوحد... رحيل بن علي كشف لنا عديد الحقائق التي كنا نجهلها فالمخلوع لم يكن الوحيد الذي أجرم في حق هذا الشعب وسلب خيراته وهتك أعراضه وهو لم يكن سوى رئيس العصابة التي بقيت تتاجر بمشاعرنا وتسخر من عجزنا وتمرح بين شوارعنا وأزقتنا "بيت بيت و زنقة زنقة"...عصابة بن علي "بابا" تعدت الأربعين حراميا وتجاوزت حدود الطرابلسية فما يحدث منذ 14 جانفي يؤكد أن مصاصي الدماء في هذا البلد أكثر بكثير مما كنا نتخيله وان كل الدماء التي سالت ومازالت قد لا تروي ظمأهم ولا تشبع غريزتهم فموتنا يعني حياتهم ووجودنا يعني زوالهم لذلك يبدو لهيب الثورة ما يزال متقدا والخوف ان ياتي اليوم الذي يصبح فيه التونسي لا يفرّق بين "كوعه" و "بوعه"...