أجمع التونسيون والتونسيات بكافة شرائحهم وفئاتهم وانتماءاتهم السياسية وأجمع كذلك الملاحظون والمراقبون ومنهم العرب والأجانب أن انتخابات يوم 23 اكتوبر كانت حدثا تاريخيا مميزا سيبقى دون شك راسخا في الذاكرة الوطنية التونسية . فالعملية الانتخابية في مجملها كانت ناجحة إلى أبعد الحدود من حيث تنظيمها المرحلي العملي واللوجستيكي ومن حيث الإقبال المكثف على صناديق الإقتراع والمشاركة التي فاقت كل التوقعات على الرغم من حداثة ثورة الحرية والكرامة وهشاشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية نسبيا في البلاد . وعلى الرغم من حالات الإحتقان في بعض الجهات في الأشهر الأخيرة والتي أثارت تخوفات بشأن فشل أول إمتحان إنتخابي ديمقراطي حر ونزيه في تاريخ تونس منذ إستقلالها فإنّ الشعب التونسي أثبت للعالم أجمع أنه شعب جدير بالإحترام وأنه شعب متحضر وأن تونس فضاء يحتضن جميع أبنائه ويتسع لكل الآراء ولكل الأفكار ولكل التيارات الفكرية والإيديولوجية والسياسية على أن تكون سيادة الوطن واستقلالية القرار الوطني وكرامة الشعب الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها... إذن قال الشعب التونسي يوم الأحد 23 اكتوبر كلمته الفصل وحسم الأمر وعبّر عبر صناديق الاقتراع عن إرادته وإختار بكل حرية ممثليه ونوابه في المجلس الوطني التأسيسي . وعرفت الأحزاب القائمة قبل الثورة والناشئة بعد 14 جانفي واللاهثة كلها وراء السلطة حجمها وأدركت وزنها الحقيقي وأن ما ظلت تردده وتستبله به المواطن من شعارات براقة ووعود زائفة تجاوزه الزمن وأدركت هذه الأحزاب التي بلغ عددها اليوم 117 حزبا أن عهد الديماغوجية ولى وانقضى دون رجعة ! كما أخال ان هذه الأحزاب أدركت أن الشعب التونسي لم يعد يثق في الأحزاب بإستثناء البعض منها الذي حقق فوزا ساحقا وغير منتظر في انتخابات المجلس التأسيسي على غرار حزب النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والعريضة الشعبية التي كانت المفاجأة من العيار الثقيل على الرغم من التعتيم الإعلامي الكبير والضخم الذي استهدفت له في كل وسائل الإعلام التونسية العمومية والخاصة المكتوبة والمرئية والمسموعة التي والحّق يقال انحاز أغلبها لعدد معين من الوجوه السياسية التي إحتكرت صفحات الجرائد والشاشات وهي بذلك لم تلتزم الحياد بل وظفت كل جهودها لخدمة تيارات سياسية معينة منيت بفشل ذريع في الامتحان الانتخابي يوم الأحد الماضي وهو فشل بمثابة "الصفعة القوية" ، لمن ركب قطار الثورة دون مشروعية شعبية نضالية جماهيرية مستحقة ،ووظف إمكانيات بشرية ومالية وإعلامية ضخمة للتموقع في المشهد السياسي الوطني والتواجد مهما كان الثمن تحت " قبة المجلس" . هؤلاء دفعوا ثمن "الثقة المفرطة في النفس " وتأكدهم من النجاح بل وقناعتهم المطلقة في ثقة الشعب فيهم ، هذا الشعب الذي أعطاهم اليوم فرصة لمراجعة أنفسهم وحساباتهم وإستيعاب الدرس وإستخلاص العبرة والتيقن نهائيا أن الشعب التونسي ليس لعبة يتلهى بها من يشاء وكيفما شاء . فعهد إستبلاه التونسيين والتونسيات و"الاستبداد" السياسي والمغالطات ولى وانقضى وفتح الشعب التونسي صفحة جديدة عنوانها "المصداقية" والولاء لتونس دون سواها والوفاء لشهداء ثورة الحرية والكرامة . وعلاوة عن الفشل الذي منيت به اغلب الأحزاب السياسية المترشحة للتأسيسي نشير أيضا إلى فشل القائمات المستقلة التي بلغ عددها 658 قائمة لم ينجح منها إلا عدد ضئيل في بعض الجهات على غرار مدنين وصفاقس والقيروان والقصرين وسيدي بوزيد . هذه القائمات ضمت كفاءات وشخصيات مستقلة بارزة راهنت بالأساس على البعد الجهوي ونافست الأحزاب على الرغم من محدودية إمكانياتها وأثرت المشهد الانتخابي في كافة الجهات . وكتجربة أولى والفوز في عدد من الدوائر الانتخابية يمكن القول إن القائمات المستقلة فهمت على الأقل نوعا من أبجديات اللعبة الانتخابية لتدخل وتخوض الاستحقاقات والمواعيد الانتخابية المقبلة بثقة في النفس أكبر وبإستراتيجية جديدة . اما بخصوص الأحزاب التي سموها "سليلة" التجمع الدستوري المنحل والتي أثارت شيئا من التخوف والتي تجاوز عددها الأربعين بتسميات مختلفة فإنها لم تتمكن من كسب ثقة الناخبين بإستثناء حزب المبادرة وحزب آفاق والحزب الوطني الحر التي حصلت على عدد محدود من المقاعد في بعض الجهات وخاصة حزب المبادرة في جهة الساحل وحزب آفاق في مدنين وصفاقس ونابل . ملاحظة أخرى تتعين الإشارة إليها وتتمثل في فشل قيادات العديد من الأحزاب السياسية التي رشحتها عمليات سبر الآراء لاحتلال مواقع متقدمة على غرار الحزب الديمقراطي التقدمي و القطب الحداثي وحزب العمال الشيوعي وغيرها . كما تجدر الإشارة إلى أهمية نجاح المرأة في انتخابات التأسيسي وخاصة عن حزب النهضة . ومن المتوقع ألا يقل تواجد المرأة في المجلس الوطني التأسيسي عن 20 بالمائة .وهذه نسبة محترمة مرشحة لأن تتعزز مستقبلا . هذه هي إذن بعض المعطيات والملاحظات في قراءة أولى لنتائج انتخابات 23 أكتوبر .وفي انتظار استكمال الإعلان نهائيا ورسميا عن كامل النتائج لنا عودة لمزيد التحليل والتوضيح والاستنتاج.