لم تكن مسألة العدالة الانتقالية تطرح من قبل في تونس حيث لم تكن هناك حاجة لتثبيت السلم المدني أو لتعزيز ديمقراطية مطلوبة بل لم يكن هناك شك في السلم الاجتماعي وفي أمن وأمان تونس طيلة العشريتين السابقتين. ولكن اليوم أصبحت مسألة العدالة الانتقالية مطلبا ملحا وضروريا في إطار توفير آليات الانتقال السياسي الديمقراطي الذي تطلب وجوبا مواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان وملفات فساد متعددة الأوجه. وكثرت التساؤلات بشأن أوجه تفعيل العدالة بمختلف اصنافها: الجنائية والاجتماعية وكذلك الاقتصادية. وتكونت في هذا الإطار ومنذ 18 جانفي الماضي اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة وهي هيئة وطنية عمومية مستقلة عن السلط القانونية والقضائية والتنفيذية وترأسها الأستاذ الفقيد عبد الفتاح عمر وهو أستاذ متميز في القانون وعميد سابق لكلية العلوم القانونية واضطلع كذلك برئاسة اللجنة الأممية المهتمة بحقوق الإنسان . ولئن سارع الأستاذ عبد الفتاح عمر بتقديم تقرير عمل لجنته بعيد انتخابات 23 اكتوبر فقد كثف بالتوازي مع ذلك من الحضور الإعلامي اللافت لتبرير هذا "التعجيل" ومناقشة وتقييم هذا التقرير، آخره كان في رحاب مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات يوم 26 نوفمبر 2011 حيث قدم شهادة مشفوعة بنقاش حاول خلالها لا فقط مجرد تقديم مجالات وانجازات اللجنة بل حاول ايضا عدم إغفال ذكر عدد من الجوانب السلبية والنقائص واعترف أن اللجنة التي تكونت من 25 عضوا افتقدت إلى مختصين في علم النفس وعلم الاجتماع قادرين على التعامل مع الجوانب النفسية والاجتماعية للمشتكين وكذلك إلى مؤرخين قادرين على معالجة وتبويب الكم الهائل من الوثائق التي عثر عليها في ارشيف الرئاسة. ورغم تأكيده على أن جزءا من مصادر التقصي كانت مجرد ادعاءات و"وشايات" غير موثقة وأن عمل اللجنة اقتصر على مجرد جمع الأدلة وتقديمها للقضاء وعلى حساسية عمل اللجنة في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان, فقد أوصى في المقابل بتواصل صلاحيات اللجنة وجعلها هيئة قارة مستقلة لمكافحة الفساد الذي تواصل بعد الثورة. ضرورة تصحيح عمل اللجنة لتفعيل مسار العدالة الانتقالية يبدو أن عمل هذه اللجنة المستقلة وما افرزه من نتائج يدعو اليوم إلى تعزيز آليات التقصي حول الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان السابقة وبالتوازي تثبيت سياسة قضائية مسؤولة تعتمد تدابير تجعلها قادرة على المحاسبة على جرائم الماضي والوقاية من الجرائم الجديدة في الآن نفسه. ولا شك أن دعم وتصحيح مسار عمل هذه اللجنة سيساهم حتما في تركيز المسار الديمقراطي لأنّ الديمقراطية لا يمكن بناؤها على مجرد "شبهات" أو وشايات وأن جهوداً مستمرة لمواجهة الماضي يمكن أن تؤدي إلى ديمقراطية أكثر قوة. وهنا لابد من مراعاة الواجب الأخلاقي في مواجهة الماضي وتشريك نشطاء حقوق الإنسان وعلماء النفس والاجتماع للتعامل الجيد مع الملفات وخاصة مع الضحايا لتجاوز الإحساس بالظلم والإهانة و خاصة عدم تجاهل الماضي لتجنب ثورات الذاكرة. ردع الفساد ومنعه مستقبلا لاشك أن نجاعة تقصي الحقيقة وعدالة المحاسبة وحسن التعامل مع الماضي يخلق نوعا من الردع ويؤمن الوقاية من وقوع الفساد ويقلل منه في المستقبل. ولا شك أن الاصلاح المؤسساتي ولقانوني واشاعة ثقافة حقوق الانسان, هي من اهم متطلبات العدالة الانتقالية دون نسيان حفظ وتاسيس الذاكرة الجماعية عبر مزيد العناية بالمسألة التوثيقية.