في قضية قناة نسمة، كان المشهد أمام المحكمة سرياليا حدّ الاستغراب، و لكنّ نتائجه الآنية كارثية على صورة الثورة التونسية في الداخل و خاصة لدى الرأي العام الحقوقي و السياسي الدولي . كيف لا و قد تمّ كالعادة – استهداف الإعلاميين الحاضرين معنويا و مادّيا من طرف قلّة رفعت شعار تكفير الجميع، وتدافعت مع الأسف من أجل تصويرها وكالات الأنباء و الشخصيات الأجنبية الحاضرة التي كان عددها كبيرا . إنّ تبعات ما حصل لن تظهر في الداخل فقط، بل ستكون له انعكاسات سلبية على علاقاتنا الدولية ببعدَيْها السياسي و الاقتصادي و هما عاملان رئيسيان لنجاح مسار الثورة أو فشله. ففي الداخل و إضافة الى الشأن الاجتماعي الذي مازال يراوح مكانه بين اعتصام و احتجاج من جهة ، و قرارات حكومية و مطالَبَة بالصبر و تفهّم صعوبة المرور إلى تنفيذ الوعود دون هدوء الوضع من جهة أخرى ، تطلّ علينا بذور فتنة جديدة متمثّلة في محاولة مصادرة حرية الرأي و الإعلام . و هذا الشحن و الشحن المضاد قد يزيد في تأجيج الوضع "المُكَهرَب" أصلا و يزيد الانقسام الحاصل حاليا انقساما آخر لا نعلم حجم رجْعِ صَدَاه لكننا نعرف أنه سيساوي بين كل الفُرَقاء السياسيين والتونسيين في تَذَوُّقِ طَعْمِهِ المُر والحارق . فالثورة التي قامت أساسا من أجل العدالة الاجتماعية و الحرية و ضد التسلط و القمع و مصادرة الرأي الآخر، كان من المفترض و بعد سنة من قيامها أن تكون حرية الإعلام و الرأي فيها قضية محسومة لدى كل التونسيين باعتبارها ركنا أساسيا من مطالب الثورة. لأنّ التسليم بذلك سيُوَفِّرُ على كل المسؤولين السياسيين حكومة و معارضة جهدا إضافيا لإخماد توتّراتِ جانبية كالتي حصلت البارحة لتوجيهها نحو المطالب الاجتماعية العاجلة والعمل على حلّها بأسرع وقت ممكن. وفي كل ذلك، يبقى الإعلامي و في سبيل ضمان حقه في إيصال المعلومة ، هدفا سهلا لكل التيارات المختلِفَة في ما بينها والمتفقة فقط عليه ! وإلاّ فكيف يُمنع من مواكبة مداولات المحكمة بتعلّة سريتها ؟ و كيف يقع الاعتداء عليه وتكفيره "زنقة زنقة، دار دار ..إحنا وراكم يا كُفَّار" و يكون التعامل الأمني فاترا؟ قد نتفهّم خوفه (أي الأمن) من أنْ يُتَّهَم باستعمال وسائل مفرطَة في القوة، و لكننا نسأل أيضا أليس مطالَبا باستعمال ما يسمى "قوة الدولة" طبعا في إطار احترام القانون للحفاظ على أرواح المواطنين ؟ أيحتاج الأمر حقا لقتيل يسقط من الإعلاميين كي نستفيق من هذا التردد الأمني و خاصة السياسي؟ فهذا الأخير بقي يتعامل مع هذه التهديدات والاعتداءات بعقلية حزبية حسابية ضيقة دون بلورة موقف حاسم وواضح، متناسيا أنه من الممكن أن يجد نفسه مستقبلا ضحية لهذه الممارسات . ولا نعرف كيف سيتصرّف حينها ؟ و هل سيتباكى حقا على انحسار حرية التعبير و الإعلام؟ أمّا في الخارج، فلن تكون تبعات ما حدث البارحة أفضل، فنجاح مسار الثورة داخليا هو مؤشِّر أساسي لخلق ديناميكية دبلوماسية تمكّن بلادَنا من طمأنة الرأي العام الدولي و كسب ثقته بما يجعله يُقْدِم على إنجاح هذا المسار و ذلك بخلق استثمارات اقتصادية جديدة و ضخ رؤوس أموال وتقديم المساعدة التقنية و الصناعية و العمل على "الترويج" الإيجابي لثورتنا. و لكنّ المعطييْن السياسي و الاقتصادي يرتبطان بوثاق لا فِكاكَ منه لدى الرأي العام الدولي بالشأن الحقوقي.إذ يُعتبَر هذا الأخير مقياسا محدِّدا لكل تعامل سياسي و اقتصادي مع دولة ما. ومع الأسف الصورة التي بقيت لدى الصحافة الأجنبية في متابعتها لقضية "نسمة" هي تلك الصرخات التكفيرية و الاعتداءات على الإعلاميين و نشطاء المجتمع المدني ، و إذا ما أضفنا الى ذلك ما نشرته جريدة "لوفيغارو" الفرنسية عمّا أسمته "إمارة سجنان " ، فهل يمكن الحديث عن مناخ مشجع لجلب الاستثمارات الخارجية ؟ ومساند لقطاع السياحة مثلا؟. ونتيجة ذلك واضحة، التضييق من عدد الحلول الممكنة نظريا لمجابهة المطالب الاجتماعية العاجلة. وبين الداخل والخارج، ضاع المواطن بين القضايا الاجتماعية والحقوقية بينما بقي الخطاب السياسي كعادته ضبابيا مُخاتِلا في المسألتيْن.