يبدو أن حكومة الباجي قائد السبسي لم تشأ أن ترحل دون أن تترك وراءها ملفات مفتوحة، وربما «ألغاما» بدأت تنفجر في وجه الحكومة الحالية خاصة بعد الأزمة التي ما زالت تمرّ بها هذه الأخيرة بسبب الاعتصامات والاحتجاجات التي أوشكت أن تدخل البلاد في دوامة من العنف وعدم الاستقرار لولا دعوات التعقل. فالضّبابيّة والتذبذب والمعالجة السطحية التي رافقت تعاطي حكومة السبسي مع عدد من الملفات العاجلة جعلت بعض منتقديها يجزمون بأنها تعمدت زرع الألغام في طريق الحكومة الحالية من خلال التركة الثقيلة التي خلفتها. ورغم محاولة الحكومة الفارطة إقناع منتقديها بمشروعية خطواتها وبالظرفية الدقيقة التي جاءت فيها فإنّها أخفقت في وَصْفَةِ «المُسَكِّنَات» العاجلة للملفات الحارقة كالبطالة وملف شهداء الثورة وجرحاها والمحاسبة وملفات الفساد وغيرها من السجلات السوداء التي شدت الرأي العام وكان ينتظر الحسم فيها بما يشفي الغليل ويؤكد الحزم والشفافية في التعامل معها. فهل تعمدت حكومة السبسي زرع العراقيل منذ البداية لحكومة الترويكا لتوريطها في مستنقع مشاكل يصعب الخروج منه؟ يبدو السؤال مغاليا فيه ولكنّ المتَبَنّين لهذا الطرح يستدلّون بتقديم استقالة هذه الحكومة قبل شهرين كاملين من تنصيب حكومة الجبالي وهو ما جعلها مجرد حكومة تصريف أعمال ليس لها أية علاقة بمجريات الأمور والملفات العاجلة على الأرض مِمّا أصاب الدولة بحالة شلل شبه كاملة . إن تقييم أداء حكومة السبسي يتطلب مزيدا من التروي والتدقيق قبل الحكم عليها نظرا للظرفية التي عاشتها تونس بعد الثورة وربما قصر المدة وثقل الملفات العاجلة وتعدّدها، لم يترك لها المجال لتفرغ ما في جرابها . ومع نسبيّة صحّة هذه المبررات، فإنها وحسب معارضيها، لم تقدم غير وعود جوفاء وقرارات أثقلت كاهل الدولة على غرار الترفيع في رواتب العديد من الموظفين في بعض القطاعات الأمر الذي أدخل الحكومة الحالية في مطبات مع النقابات ومع الرأي العام. فهذه الزيادة لرواتب موظفي الدولة حوالي نصف مليون موظف لها انعكاس مالي بمليار دينار تونسي في وقت تواجه فيه الموازنة والخزينة حالة صعبة للغاية . وهذا الطرح ردّ عليه السبسي بصفة مباشرة في لقاء تلفزي الإثنين الماضي بقوله إنه لم يُمض على ترقيات إلا حسب القانون مشيرا إلى أنّ الترفيع في المنح لبعض القطاعات العمومية كان فقط حتى تُصبح جميعُها متكافئة في سُلَّمِ الرُّتَبِ والحوافز، وأنه لو لم يقم بذلك لكان باستطاعتهم مقاضاته أمام المحكمة الإدارية. ولعلّ «صيحة الفزع» التي أطلقتها حكومة الجبالي بعد شهر من تشكيلها بسبب تواصل ظاهرة الاحتقان الاجتماعي، ممّا نجم عنه مزيد تردي الأوضاع الاقتصادية وتواصل عمليات قطع الطرق وسكك الحديد والمضاربات والتهريب عبر الحدود والتي أدت إلى ارتفاع أسعار المنتوجات والى تدهور نشاط المؤسسات، حَمَلَتْ «الترويكا» على الاعتقاد في عدم جدية تعامل حكومة السبسي مع هذه الملفات . فحكومة الجبالي وجدت نفسها أمام تَحَدِّ كبير وهو ما جعلها تتحرك في كل الاتجاهات بلا بوصلة واضحة لجلب الاستثمارات، وإنقاذ الاقتصاد من الانهيار والهرولة نحو الدول العربية وخاصة الخليجية طلبا للدعم، لكن التركة كانت أثقل أمام قلة خبرة وزراء «الترويكا». وقد اتهم الكاتب والمحلل المصري أحمد منصور، في مقال له، حكومة السبسي صراحة بأنها قضت عشرة أشهر تضع القيود الاقتصادية والسياسية لمن ستأتي من بعدها، وكانت النتيجة إغراق البلاد في مزيد من الديون، وتقييدها بمزيد من الاتفاقيات. وقال منصور إن الباجي اعترف في لقائه معه بأن المهمة الأساسية لحكومته ليست وضع خطة الطريق الآنية فحسب، بل تحديد مسار الحكومة القادمة من بعده لخمس سنوات على الأقل، وهذا يعني حسب رأيه (منصور)، أن السبسي، كان يدرك أن الإسلاميين لهم حظوظ في الوصول إلى دفة السلطة. كما أن الحكومة السابقة لم تحقق نتائج كبيرة في جلب المتهمين بقضايا فساد وعلى رأسهم المخلوع وعائلته ولم تتمكن من استعادة أموال الشعب المنهوبة. ورغم محاولاتها لمعالجة ملفات الفساد فقد اتُّهِمَت بأنها تعيق الاصلاح وتعرقله من خلال سياسات فشلت في محاكمة واضحة للمسؤولين عن الفساد والتعذيب وربط كل الجرائم ببن علي وعائلته دون الحديث عن اللوبي الأمني والمالي والسياسي الذي كان يحكم البلاد. ومثلت التعيينات التي قيل عنها إنها مشبوهة لشخصيات قد تكون مورطة في الفساد وفي جرائم بحق مواطنين تونسيين، إحدى نقاط الارتياب بالاضافة الى تهاون السلط الأمنية في التدخل الناجع لإخماد النزاعات القبلية والعشائرية التي انتشرت في بعض المدن التونسية مما جعل عديد الشبهات تحوم حول هذا التهاون وتعتبر أنه يهدف إلى الإلهاء عن المطالب الشعبية وتأجيل المسألة الى مواعيد لاحقة . وبدا ملف الشهداء وجرحى الثورة الأكثر ثقلا في تركة السبسي حيث لم تغفر عديد الأطراف لحكومته مماطلتها في الكشف عن قتلة الشهداء وضبابيتها في التحقيق في قضية القناصة الذين استهدفوا شباب الثورة. ومثلت دعوة الباجي قائد السبسي القوى الوطنية والديمقراطية في البلاد إلى الخروج من حالة التشرذم وتكوين جبهة سياسية تكون سلطة مضادة تقف أمام نزعة حركة النهضة الإسلامية لاحتكار الحكم وضد تنامي خطر المجموعات السلفية، حافزا مستفزا للاحزاب والرأي العام لسحب البساط من تحت حركة النهضة وحلفائها وإطلاق رصاصة الرحمة على الائتلاف الحاكم. لذلك تميزت ردود قياديي التحالف وخصوصا النهضة والمؤتمر بالحدّة وبمحاولة التقليل من أهمية مبادرته ومواقفه التي احتواها بيانه للرأي العام. ولكن رغم الهنات المتعددة والمتلاحقة، اعتبر العديد من متابعي الشأن التونسي مواقفَ منتقدي حكومة السبسي مبالغا فيها وذلك لحسابات حزبية ضيقة. ويرى هؤلاء أن فترة حكم السبسي تميّزت بنوع من الاستقرار وبمحاولات إصلاح المنظومة الأمنية والسياسية المنهارة وإنعاش الاقتصاد الوطني الذي عرف تراجعا كبيرا اثر نجاح ثورة 14 جانفي. ولم ينكر حتى منتقدوها قدرتها على إدارة الملف الاقتصادي حيث أعادت نشاط عدة مؤسسات اقتصادية محلية وأجنبية توقفت عن العمل بسبب الاحتجاجات العمالية كما قامت بطمأنة المستثمرين التونسيين والأجانب بعد قرار الكثير منهم تحويل استثماراتهم إلى دول مغاربية أخرى بسبب الاحتجاجات وأعمال العنف كما قامت الحكومة بجلب مساعدات مالية في شكل هبات وقروض من دول عدة أثارت في اغلبها جدلا ومعارضة كبيرة لكنها ساهمت في إنعاش الاقتصاد الوطني وتحريك العجلة الاقتصادية التي توقفت لأشهر. كما أنّ المدافعين عن حكومة السبسي يتحدثون عن تسريبات عديدة تؤكّد أن اتفاقيات الاستثمار والقروض مثلا مع قطر هي من نتائج سابقة لزيارة السبسي ،كما أنّ وزير مالية حكومة الجبالي طالب مجموعة الثماني باحترام تعهداتها في دعم الاقتصاد التونسي وهو ما يُبْعِدُ تهمة بيع استقلال القرار الوطني عن حكومة السبسي رغم أنّ بعض وزراء الحكومة الحالية كانوا أوّل مَنْ رَوَّجَ هذه الفكرة (طبعا قبل تسلمهم كرسي الوزارة!) ولعلّ ما يزيد في حيرتهم حول هذا «الانتقاد» غير الموضوعي حسب رأيهم لحكومة السبسي هو تساؤلهم:كيف تعتبرها «الترويكا» سببا في الوضعية الحالية مع أنها أثنت على أدائها عند تسلّم مهامها !؟ وخاصّة كيف ولماذا ضغطت هذه الأخيرة (الترويكا) على أعضاء المجلس التأسيسي رغم اعتراض المعارضة على تمرير قانون المالية في ظرف قياسي لم يتجاوز ال 24 ساعة مع أنه مشروع صاغته كاملا حكومة السبسي المُنْتَقَدَة؟ وعموما فإنّ الحديث كثر هذه الأيّام في الكواليس السياسية عن «ألغام» زرعتها حكومة السبسي في طريق الحكومة المنتخبة لتعجيزها والدخول بها في متاهات يصعب الخروج منها في انتظار موعد الانتخابات القادمة والتي يظهر من خلال بيان السبسي الأخير أنه يعوّل عليها كثيرا للعودة إلى دفّة السلطة خاصة إذا علمنا أنه يمهّد لبعث حزب يضمّ حساسيات مختلفة يكون قادرا على مزاحمة نفوذ «النهضة» في البلاد والانتصار عليها في الانتخابات القادمة.