عصابات تعمل في الخفاء، وتدير شبكات تهريب محلية ودولية ويتعامل رجالها ب «المليارات» دون أن يعرفهم أحد، فحتى العاملون في هذه الشبكات لا يعرفون الرأس الذي يديرهم أو الشخص الذي يعملون لصالحه، وكل الرؤوس قد تقع في الفخ إلا هؤلاء، لأنهم ببساطة يعملون بدهاء دون أن يتركوا آثارا وراءهم، مستغلين العديد من الأشخاص مقابل أجور خيالية، لتنفيذ مخططاتهم لتهريب المخدرات ومختلف أنواع المواد التي طالت حتى الفسفاط. فقد تطورت تجارة التهريب في السنوات الاخيرة لتصبح قطاعا ساخنا يؤمن لقمة عيش مئات العائلات وخاصة تلك القاطنة قرب المناطق الحدودية حيث تراجعت طرق التهريب التقليدية (استعمال الحمير والمسالك الوعرة) وتهريب بعض المواد الغذائية والبنزين باعتبار سهولة السيطرة على هذا النوع من العمليات عبر الدوريات الأمنية ومراقبة المسالك الحدودية المعروفة بالتهريب وعادة ما يتعرض المهربون إلى عقوبات بالسجن أو خطايا مالية. اليوم أصبح المهربون يستعملون الشاحنات الخفيفة والمسالك البعيدة عن أعين الدوريات الأمنية وهو اللغز المحير والذي يصعب السيطرة عليه او حتى معرفة من يقف وراءه. مواد غذائية... فسفاط... أسلحة ومواد محظورة مصادر «التونسية» تشير إلى أن شبكات المهربين التونسيين بالجنوب الشرقي استغلت الأوضاع الأمنية المتردية سواء بتونس أو ليبيا لتفعيل نشاطها غير المشروع، بالتركيز أساسا على تهريب المواد الغذائية الاساسية وتمريرها عبر منافذ اتسع مجالها أكثر في الفترة الأخيرة وترتب عنها ازدياد الطلب خاصة من طرف القطر الليبي الذي يشهد حاليا وتيرة إعمار جديدة على حساب السوق المحلية. وقد شمل التهريب قوارير الجعة والخضر بأنواعها ومواد البناء والفسفاط والمواشي بجميع أنواعها كما تم تهريب كميات هامة من المواد الغذائية المدعمة كالحليب والأرز والكسكسي والمقرونة والسكر مقابل كميات من المواد المخدرة بجميع أنواعها وكذلك الأسلحة وخاصة «الكلاشنكوف» والنحاس والمازوط مما دفع بالسلطات المعنية إلى إطلاق صيحة فزع خوفا من نفاد المخزون المحلي من المواد الغذائية وإغداق البلاد بالأسلحة والمواد الممنوعة التي من شأنها أن تؤزم الوضع في البلاد ودعت في عديد الجلسات إلى مضاعفة التعزيزات الأمنية على كامل الشريط الحدودي وحفر الخنادق في مسالك التهريب. ولم يقتصر غول التهريب على هذا الحد بل طال ايضا كميات كبيرة من الادوية في الوقت الذي يشهد فيه القطاع الصحي نقصا في العديد من الانواع حيث تم مؤخرا حجز كمية من المسكنات قدرت بالمليارات في الاسواق الجزائرية مهربة من تونس كما تم ايضا حجز كميات من «سيروم» الاطفال في منطقة «التوي» بجهة تطاوين. بعض الأساليب المعتمدة في التهريب يظل هاجس المهربين تمرير سلعهم فوق كل الاعتبارات وتظل رحلة البحث عن الحيل متواصلة إلى حد وصفهم بالعباقرة. ولعل من أبرز أساليب التهريب المعتمدة مؤخرا بتنفيذ حيلة جديدة تفوق حدود الخيال لتمرير كميات معتبرة من المخدرات وذلك بدسها داخل فضلات «الدجاج» التي تباع بالمناطق الحدودية التونسيةالجزائرية لإعادة بيعها في تونس أو في الجزائر واستعمالها كأسمدة لغرس البطاطا، والمحاصيل الزراعية الأخرى، خاصة في المناطق المعروفة بنشاطها الفلاحي كالشمال الغربي بتونس ووادي سوف بالجزائر. ويقوم المهربون بوضع كميات كبيرة من المخدرات داخل فضلات الدجاج سيما وأن عناصر الأمن لا يوقفونها في الحواجز الأمنية حتى لو استعملوا الكلاب البوليسية نظرا لرائحتها الكريهة، وبالتالي يستغل المهربون ذلك لنقل سمومهم في راحة تامة. وأكدت مصادرنا أن هذه الظاهرة أو الحيلة الجديدة أصبحت تستعمل كثيرا من طرف المهربين بعد أن تم تضييق الخناق عليهم، حيث تمكنت المصالح الأمنية الجزائرية في ظرف ثلاثة أشهر فقط من حجز 15 ألف خرطوشة و30 قنطارا من التبغ على شكل أوراق كانت مخبأة تحت فضلات الحيوانات إلى جانب حجز كميات معتبرة من المخدرات في شكل صفائح وسط أكوام الغبار (فضلات الحيوانات). كما يتم تهريب كميات «الزطلة» عبر حمير وجمال مدربة يقع تحميلها بالحمولة المطلوبة ثم يضعون لها آلة تسجل فيها بعض العبارات تحثها على السير المتواصل «إر» «إر» وهذا النوع من التهريب يعرف في المسلك الجبلية بالمناطق المتاخمة للحدود مع الجزائر. أما عن تهريب الاسلحة فقد عرف حنكة تامة استعصت على الكلاب المدربة وحتى آلة الكشف من خلال لف قطع السلاح وخاصة المتفجرات في ورق الألومينيوم ثم طلائه بشحم السيارات وقد سجلت هذه العملية عديد المرات في البوابات الحدودية راس الجدير وذهيبة. كما يتم ايضا شحن سيارات التهريب بحمولة من النحاس ويقع في الآن نفسه دس ذخيرة حية بها «خراطيش».من جهة اخرى يقوم المهربون بإرسال سيارة دون حمولة تقوم بعملية استكشاف للطريق تتبعها سيارات محملة بالمواد المهربة حيث تقوم الاولى بإرشاد البقية وتنبيهها بوجود دوريات امنية من عدمه . كما يعتمد المهربون اللعب على عامل الوقت حيت تتم عمليات التهريب في مجملها في ساعات متأخرة من الليل وكذلك اتباع المسالك الوعرة التي لا تطالها الدوريات الامنية والتي تعرف بالظلمة . أما بالنسبة لتهريب قطعان الماشية فإن اغلب المهربين يقومون باقتناء المواشي من المربين في تونس بأسعار مرتفعة لأنه متأكد من بيعها بأسعار مرتفعة في ليبيا (حوالي 22 د تونسي بالنسبة للكلغ الواحد من لحم «العلوش»). ومن الطبيعي أن يجد الجزار أو بائع اللحم بالجملة نفسه أمام الامر الواقع، فإما أن يقتني المواشي بالأسعار نفسها التي يشتري بها المهربون (وهذا ما أصبح يفرضه المربون) أو أن لا يتزود بحاجياته ويضطر بالتالي للتوقف عن العمل.. ويقول مصدر مسؤول ان عمليات التهريب تتم بواسطة أشخاص مؤهلين للغرض وهم عادة إما رعاة أغنام قاطنين بالمناطق الحدودية أو أشخاص آخرين من تلك المناطق ويكونون على دراية تامة بالمراعي المشتركة بين البلدين وبالمسالك الصحراوية التي يمكن ان تمر منها الاغنام.. لكن كيف تصل الاغنام إلى تلك المناطق قادمة خاصة من مناطق الشمال والوسط في تونس؟ عن هذا السؤال يجيب أحد العارفين بالموضوع ان أصحاب رؤوس أموال أصبحوا يتوجهون إلى أسواق الدواب ويقتنون أعدادا كبيرة من المواشي غير انهم لا يوجهونها إلى السوق المحلية ( المسالخ والقصابين ) بل ينقلونها على جناح السرعة وبطرق مختلفة إلى المناطق الحدودية حيث يقع ادخالها إلى الاقطار المجاورة. هؤلاء «الدخلاء» أصبحوا منافسا حقيقيا لتجار اللحوم بالجملة الذين ينشطون بصفة رسمية (حوالي 6 شركات)، وأصبحوا يمنعونهم من تزويد السوق الداخلية بشكل عادي باعتبارهم يتسببون في ندرة العرض من المواشي في سوق الدواب وفي التهاب الاسعار. اما فيما يخص تهريب السيارات فيعتمد المهربون الى تسوغ سيارات أغلبها تحمل ماركات «باسات» و«فولفو»، أو سرقتها من تونس وتسليمها إلى شركاء آخرين في ذات المجال المشبوه بالمناطق الحدودية بالشرق الجزائري أين ازدهر هذا النوع من التجارة وبأسعار حددها المصدر ذاته بالمنخفضة وبصورة غير معقولة حيث يتم إدخالها فورا إلى التراب الجزائري عبر عمليات تزوير وثائقها وملفاتها القاعدية وأرقامها المنجمية او عن طريق تفكيكها وبيعها قطعا قبل نقلها إلى السوق. وقد عرفت الجزائر الوجهة الاساسية لهذا النوع من التهريب خلال العشرية الماضية ظاهرة إغراق السوق الوطنية بالسيارات المهربة ، وقد اكد مصدر مسؤول ان مافيا تهريب السيارات انتهزت فرصة الاضطربات السياسية التي كانت مسرحها تونس وليبيا وسارعت بربط اتصالات مع شبكات جزائرية مختصة بدورها في التهريب تقوم الأولى بالإشراف على مرورها ونقلها وتأمين تهريبها بعيدا عن المراقبة الأمنية على الحدود المشتركة خاصة الليبية والجزائرية. فيما تسهر شبكات أخرى على تأمين مرورها بالمسالك التي تنطلق من صحراء «اماجادو» في اتجاه الحدود الجزائرية إلى أن تصل إلى منطقة «الدبداب» ومن ثم إلى الجزائر. ويتكفل بعض عناصر هذه الشبكة، حسب المصدر ذاته، بتوفير وثائق تعريفية مزورة لتسهيل حركتهم للحيلولة دون الوقوع بين أيدي المصالح الأمنية في حين يتكفل أشخاص آخرون بعملية صرف الأموال المتحصلة من هذه التجارة وإيداعها بالخارج. مراقبة... لكن عزّزت السلط التونسية منذ مدة المراقبة على الحدود وهو ما قلص من ظاهرة تهريب المواشي، لكن رغم ذلك ما زالت بعض العمليات الهامة تتم بين الحين والآخر خاصة أن تهريب المواشي لا يتم في وسائل النقل بل من خلال إدخال الأغنام او الأبقار إلى القطر الآخر مشيا على أرجلها عبر الحقول والصحاري التي ترعى فيها المواشي من البلدين بصفة مختلطة فلا يتفطن لها المراقبون.ويرى مهنيو القطاع أن المراقبة الحدودية أصبحت لوحدها غير كافية لتهريب الأغنام والأبقار بل لا بد أن تصحبها مراقبة مكثفة من السلطات المعنية على الطرقات الداخلية وداخل أسواق الدواب وذلك لمنع توجيه المواشي نحو المناطق الحدودية وللضرب على أيادي كل من يقتني كميات كبرى من المواشي أو اللحوم لغاية أخرى غير توجيهها نحو السوق المحلية . وإلى جانب الخضر والغلال، مواد البناء، والسجائر يتاجر المهربون أيضا في المخدرات والسلاح. ونظرا لخطورة هذه البضاعة وخوف أصحاب المال فإنهم يقدمون أموالا طائلة لشركائهم الذين يسهلون لهم عمليات التهريب. ويقدم لنا محدثنا تفسيرا لهذه العملية والمتمثل في الآتي: تقوم شبه عصابات تهريب بجلب انتباه الدوريات الأمنية لاخلاء الطريق الذي تتبعه العصابات من المراقبة فتمر الشاحنات الثقيلة والمحملة ببضاعتهم دون مراقبة وتفتيش كما أن مافيا التهريب والتي تخشى أن يكشف أمرها فإنها تستغل العديد من الشبان للعمل إلى صالحها بأجور خيالية وهؤلاء هم الضحايا عندما يقع إيقافهم فيصعب الوصول إلى الرأس الذي يدير هذه العملية بل إن العاملين لصالحه لا يعرفون حتى من هو «عرفهم». مناوشات وفوضى شهدت كل من معتمدية بن قردان وكذلك ولاية تطاوين مؤخرا جملة من الاعتصامات نفذها مهربو المحروقات تنديدا بما أسموه بالسياسة القمعية وتضيق الخناق على قطاع التهريب من خلال تشديد الرقابة على كامل الشريط الحدودي التونسي الليبي متهمين السلط المعنية بقطع ارزاقهم. وقد استدعت هذه الاعتصامات تدخل وحدات الامن والجيش بعد ان تعمد منفذوها بث حالة من الفوضى في المناطق المذكورة أدت الى تسجيل بعض الاعتداءات على عناصر من الجيش وقد تم رفع قضايا بالمحكمة العسكرية في الغرض. من جهة اخرى شهدت البوّابتان الحدوديتان رأس الجدير وذهيبة مناوشات بين المهربين ومختلف التشكيلات الامنية المتواجدة بالمنافذ الحدودية كادت في العديد من المرات ان تأخذ منعرجا خطيرا بعد إصرار المهربين على المرور بقوة ودون الخضوع الى التفتيش. غول الموت يترصدهم على طريقة الأفلام الأمريكية يبقى المهرب رهين خيارين إما إنجاح مهمته او السقوط في فخ الامن، وهذان الخياران يفرضان عليه عدم المبالاة بالمخاطر حتى وان استدعى الامر المخاطرة بحياته حتى انه في اغلب الاحيان ينتهي مصير المهرب إما موتا بالرصاص وهو ما سجل مؤخرا في احدى مناطق بن قردان التي فقدت أحد ابنائها الذي يعمل في القطاع رميا بالرصاص على يد مهرب ليبي او ان تنقلب سيارته في أحد المسالك نتيجة المطاردة والافراط في السرعة او يموت حرقا اثر انقلاب سيارته واشتعال كميات البنزين وهي الحادثة الاكثر انتشارا في هذا القطاع. وفي كل الحالات تبقى مثل هذه النهايات ضريبة يدفعها كل من يدخل هذا النوع من المغامرات.