لعل القارئ لهذا الإشكال يتبادر إلى ذهنه وفهمه من خلال كلمتي العدو الثالوث، معنى التحالف الثلاثي في الحكومة المؤقتة أو ما يطلق عليه باسم «الترويكا». ذلك أن الحديث عن السياسة والساسة بات مهيمنا وأصبح بمثابة القوت اليومي لكل تونسي وتونسية طيلة الفترة ما بعد الثورة المباركة. علما وأن هذا أي الحديث عن السياسة يعد وضعا صحيا لما عاشه الشعب التونسي من تصحر سياسي طيلة خمسة عقود. إن المقصود بالعدو الثالوث هو: الفقر والمرض والتخلف، هذا العدو الذي يهدد دول العالم الثالث بصفة عامة والوطن العربي من محيطه إلى خليجه بصفة خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية والعلمية التكنولوجية العالمية وما تتخلله من متغيرات جيوسياسية خصوصا على إثر ثورة الربيع العربي والتي كان منطلقها تونس. الحقيقة أن الحديث في هذا الموضوع يتسع لأطروحة أو بحث معمق ولكن سأعمل جاهدا على أن أجيب عليه في هذا المقال بإيجاز وبطريقة علمية دقيقة ومبسطة. طبعا الكل يعلم لماذا قامت الثورة في تونس؟ أسبابها ودوافعها؟ هي اجتماعية بحتة نتيجة الفقر والخصاصة والتهميش، كثرة البطالة، منوال تنموي فاشل، المحسوبية والوساطة والولاءات الحزبية... الخ من الأسباب إلى أن حرق محمد البوعزيزي نفسه يوم 17 ديسمبر 2010 لإحساسه بالظلم والقهر والذل وشتى النعوت التي تمس من كرامة الإنسان، تلك الحادثة هي التي أفاضت الكأس وجعلت الشعب يثور ضد بن علي وعائلته وأصهاره، اشتعلت النار في البوعزيزي رحمه الله ومن معه من الشهداء وتأججت وازدادت لهيبا في صدور أهالي سيدي بوزيد وتالة والقصرين والكاف وقفصة وجندوبة وسرت كالنار في الهشيم لأن محمد البوعزيزي ألهم التونسيين الشجاعة وعبر عما كانوا يخفونه ويختلج في صدورهم وما كانوا يعيشونه ويحسّون به، فتحوّل الخوف شجاعة كمن يهاجمه حيوان مفترس أو قاتل، من هو في حالة الدفاع، حب البقاء وتمسكه بالحياة يجعلانه شجاعا ويكسبانه القوة فيتحول إلى قاتل تلك هي المعادلة الرياضية «سالب +سالب= موجب أي قمة الخوف شجاعة» ليس اسم الشخص هو المهم وإنما رمزية ما فعله ومكان الحدث الذي انطلقت منه الشرارة الأولى بدون إغفال أحداث الحوض المنجمي 2008 إذ ما نلاحظه أن هذه الولايات والمدن المذكورة آنفا الأكثر فقرا وتهميشا ومرضا وتخلفا أي أميّة ولعل إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء تؤكد هذه المعطيات فنسبة الفقر 24٪ وبلغ عدد الأميين في الجمهورية التونسية مليون وسبعمائة ألف أي خمس الشعب التونسي تقريبا أما المرض فحدث ولا حرج نتيجة النقص في التجهيزات الطبية وقلة المستشفيات وغلاء التداوي والدواء. إذن الحكومة إزاء ثلاث معضلات إحداها أمر وأخطر من الأخرى شأنها شأن الملفات الأخرى لا سيما التشغيل وحرية الإعلام والعدالة الانتقالية، شهداء وجرحى الثورة، الفساد المالي والإداري وغيرها من القضايا والمواضيع التي تناولها الإعلام السمعي البصري عبر مختلف القنوات والمنابر، منبر حر، حديث الساعة، الحقيقة، في الصميم، بالمكشوف، لاباس كل هذه المنابر تناولت مواضيع عديدة ومختلفة وذات أهمية إلا أنها لم تأت على ملف الأمية في تونس أو ما يسمى بتعليم الكبار (منذ 14 أفريل 2000) هذا الملف الذي لحقه الفساد المالي والإداري. الوحيد الذي تطرّق لهذا الملف حتى نعطي كل ذي حق حقه أحد ممثلي المجلس التأسيسي عن ولاية القيروان في أحد اجتماعاتهم. فولاية القيروان تعدّ أكثر نسبة أمية تليها القصرينوسيدي بوزيد وجندوبة. في اعتقادي الشخصي كرجل تربية وككاتب عام للنقابة الأساسية لمعلمي التربية الاجتماعية، بعيدا عن كل خلفية سياسية ايديولوجية أو إدارية، يعد ملف تعليم الكبار من أمهات القضايا التي قد تعيق مسار الانتقال الديمقراطي. إذ باستقرائنا لتاريخ الفكر والممارسة الديمقراطية يسمح لنا بتحديد ثلاثة مبادئ ومكونات أساسية للنظام الديمقراطي (الحرية، المساواة والمشاركة). فالحرية هي احترام الحريات المدنية والسياسية للمواطنين. أما المساواة فهي ضمان الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والخدمات الاجتماعية لكل المواطنين وهو ما يعبر عنه بالعدل الاجتماعي أو تكافؤ الفرص، أما مبدأ المشاركة بمعنى أن يكون القرار السياسي أو السياسة التي تتبناها الدولة هي محصلة أفكار ومناقشات جمهرة المواطنين الذين سوف يتأثرون بهذا القرار أو السياسة وينبني هذا على مبدأ مهم وهو حق كل إنسان في المشاركة وإبداء الرأي في القرارات والسياسات التي سوف تؤثر عليه وعلى حياته ومصالحه. فلا حرية بدون حد أدنى من المساواة السياسية والعدل الاجتماعي ولا مساواة حقيقية دون مشاركة أو حرية ولا مشاركة في غياب الحرية. إذا اقتنعنا بهذه المبادئ الثلاثة لتحقيق نظام ديمقراطي فكرا وممارسة ودفع عجلة التنمية الشاملة لبناء تونس الغد فإن محاربة الأمية يصبح أمرا محتوما ومطلب ملحّا. لابدّ من قرار سياسي جاد في شأن هذه المعضلة الاجتماعية وانخراط هذه الشريحة الأمية في الشأن العام والخاص للدولة. وأن هذا القرار منوط بعهدة الحكومة الحالية المؤقتة أو بعهدة الحكومات التي قد تتلوها طبعا ونحن نتحدث من منطلق التداول على السلطة. عندما تتمكن الدولة من مكافحة الأمية الأبجدية والأمية الحضارية نكون قد قطعنا شوطا هائلا في التصدي لآفة الفقر وخطر المرض بأنواعه. ذلك أن الأمي عندما يتحرر من أميته يصبح مؤهلا لحل مختلف المشاكل التي قد تعترضه يوميا على جميع الأصعدة لا سيما الاجتماعية، الأسرية، الاقتصادية والبيئية وقادرا على التفاعل الإيجابي بدون تأثر في تعاطيه للمسائل التي قد تعيقه وتعيق التطور والرقي الاجتماعي. لكن لا يتم هذا الهدف المنشود إلا من خلال الإصلاح الأفقي والعمودي لبرنامج تعليم الكبار. صحيح أن سلطة الإشراف قد شكلت لجنة محايدة تتمتع بكفاءة عالية لتشخيص البرنامج والوقوف على علله وأسباب فشله من نجاحه من خلال زيارات ميدانية لمراكز تعليم الكبار في مختلف الولايات من شمالها إلى جنوبها وبالاستناد أيضا إلى استشارات موسعة من داخل وخارج البرنامج من معلمين ومنسقين جهويين من الدارسين وعامة الناس، النقابة العامة والنقابة الأساسية، إطارات إدارة البرنامج في سبيل إعداد تقرير مفصل شاف ضاف. وفي ضوء التقرير الذي سيقدم ينبني قرار السيد وزير الشؤون الاجتماعية بشأن هذا البرنامج بل بجرء كبير من المجتمع يشكو الأمية والفقر والمرض. وهنا أريد أن ألفت انتباه سلطة الإشراف في مسألة مهمة ذات شأن وطني، ما هو مصير المتعاقدين بالبرنامج وعددهم بالآلاف؟ هل ثمة نية الانتدابات والحال أن عدد المرسمين بالبرنامج لا يتماشى وحجم عدد الأميين؟ وما هي المقاييس التي ستعتمدها في الانتدابات؟ وحتى نختم جملة من الأسئلة والتساؤلات ما هو مآل برنامج تعليم الكبار في إطار الرؤية الاستشرافية بتونسالجديدة، تونس التي أصبحت تحت مجهر العالم بأسره. بقلم: عادل بوزيد (كاتب عام النقابة الأساسية لمعلمي التربية الاجتماعية)