مع بدء العد التنازلي لأيام عيد الفطر، لازالت الحيرة والاستياء يغلبان على عدد من العائلات التونسية فارتفاع أسعار الملابس خطف ابتسامة مجموعة هامة من الأطفال. أقبلت مجموعة من العائلات ضعيفة الدخل الشهري على محلات بيع الملابس المستعملة «الفريب» التي تعتبر حلهم الوحيد أمام الارتفاع المشط لأسعار الملابس، ليصبح المهم في هذه المرحلة هو ادخال الفرحة ورسم الابتسامة على وجوه صغار أبرياء. ففي جولة قادت «التونسية» الى عدد من الأسواق في العاصمة وخاصة فريب «ابن خلدون» و«الحفصية»، يتشابه المشهد أمامنا وكالعادة هي تستقطب أعدادا هائلة من المتسوقين، أمهات يتنقلن من «كدس» الى «كدس» بحثا عن لباس يلائم الصغار، لباس يجمع بين الجمالية ورفق الأسعار هذه هي «كسوة العيد» بالنسبة لهم. هؤلاء قهرتهم الظروف الاجتماعية وانهيار مستوى المعيشة وضاقت صدورهم بسبب غلاء الملابس الجديدة التي تعرض في واجهات المحلات الكبرى والتي أصبحت في الآونة الأخيرة تستقطب المتفرج أكثر من المشتري أو بالأحرى أصبحت واجهات تجذب الأنظار والقلوب أكثر مما تتحمله «الجيوب»! «خير من بلاش!!» التقيناها في سوق ابن خلدون، أين كانت تجمع خطواتها بثقل نتيجة شدة الحر وعطش الصيام، كانت تبحث وسط الأكداس عن ثياب لأطفالها بنظرة منكسرة تقول خالتي «حبيبة»: هو نفس المكان ونفس الزمان في كل مرة أريد اقتناء لباس لأبنائي.. «ضحكت برهة ثم قالت: «لقد أكثرت من زياراتي للفريب هذه السنة نظرا لكثرة المناسبات فبعد زواج أختي في الفترة الماضية جئت اليوم لاقتناء بعض الملابس... فأنا لا أستطيع دخول المحلات الكبرى وحتى وإن حاولت أن أكون دائما في صفوف المتفرجين، أرى ألوانا كثيرة تبهج النفوس لكن حرارة الأسعار تقبض الأنفاس..» وتضيف محدثتنا: «أعمل منظفة في احدى الاقامات بمنطقة التحرير وأقطن بوادي الليل، زوجي مقعد لا يعمل ولي أربعة أبناء تتراوح أعمارهم بين ال 6 و12 سنة، وفي كل ليلة نجتمع للعشاء يكون حديثهم حول لباس العيد وكيف سيلاقون أصدقاءهم، وبما أنني عاجزة عن شراء لباس جديد فقد جئت اليوم لسوق «ابن خلدون» و«هكة خير من بلاش».. «الظروف فرضت ذلك» إن الواقع في تونس قد فرض على المواطن أن يشتري الكيلوغرام من اللحوم الحمراء ب 17 دينارا، والخبز والحليب والغلال بفاتورة يومية تزيد عن ال 20 دينارا، دون الحديث عن المصاريف الجانبية، فبحكم التزامن الحاصل بين رمضان والعيد والدخول المدرسي اضافة الى ميزانية الاصطياف بالنسبة للعائلات التونسية، فقد اضطرت مجموعة هامة من المجتمع الى التكيف ومسايرة الوضع، وهو ما جاء على لسان السيد «فوزي. ح» الذي أكد أنه ملّ من ارتفاع الأسعار وتدني الجودة، ويقول في هذا الاطار: «أنا من عمال المناولة وأترك لكم التحليل والنقاش... (انفجر ضاحكا ثم عادت ملامح الحيرة لترتسم على وجهه من جديد ويضيف قائلا: «صدقوني ان قلت أنني لم أنعم بأساسيات الحياة وأما الكماليات فقد صارت حلما من الصعب تحقيقه منذ أول أيام شهر رمضان ومحفظة جيبي تنعى حظها السيىء علما وأنني لا أحمل في قاموسي مصطلح «الاصطياف» أو «الخلاعة» كباقي البشر، فبعد شهر رمضان نتجه مباشرة الى عيد الفطر ثم نجد أنفسها بعد ذلك على موعد مع استقبال العام الدراسية الجديد.. أريد أن أقول أن هذه الحكومة التي انتجتها عامة الشعب قد نسيته وانصرفت نحو مشاغلها، صدقوني ان قلت أنني لا أفقه شيئا في السياسة ولا في الأوضاع الحالية للبلاد، لأن همي اليوم موجه نحو اطعام أسرتي وتعليم أبنائي الثلاث، لكن أقولها بصراحة، «حال بلادي واجعني أكثر من حالي». وهو ما تناولته بالذكر السيدة «حفصية»، التي التقيناها في سوق «الحفصية» بالعاصمة حيث صبت جام غضبها بادئ الأمر على الاعلام وعلى الصحفيين ثم تداركت الأمر وقالت: «الزوالي» مشى في الساقين!! نحو لا ندري متى ستنتهي أزمة ارتفاع الأسعار، فشخصيا، ورغم سياسة التقشف التي أمارسها مع أبنائي، الا أني ضقت ذرعا من أسعار المواد الغذائية المرتفعة، ثم أسعار الملابس المبالغ فيها والحلويات وألعاب الأطفال، حتى أن عقلي لا يكاد يتحملها». سكتت برهة ثم عادت لتقول: «أنا أرملة وأم لأربعة أطفال، أحضر كل يوم الى هذه السوق علني أحصل على الاعانة من المواطنين كما أستغل الفرصة لأقتني بعض الملابس لأبنائي، وأقوم بين الفينة والأخرى بتفقد واختيار وانتقاء قمصان وسراويل، كما أنني على يقين بأن وضعنا المادي لا يسمح لنا بدخول المحلات الكبرى. «وضعنا المالي يمنعنا من التفكير في الثياب الجديدة» وفي مكان ليس بالبعيد، كانت السيدة «سعاد» تتناقش مع ابنتها «سمر» حول أحد الفساتين، وأشارت الى أن «الفريب» هو المكان الأفضل للشراء في ظل أسعار خيالية لملابس الأطفال داخل المحلات الكبرى وسط العاصمة، وتقول: «أسعار الثياب معقولة جدا وجودتها عالية، قد أخجل أحيانا من اخبار أطفالي بمصدر ثيابهم حتى لا تكون فرحتهم منقوصة لكن وضعنا المالي يمنعنا من التفكير في الثياب الجديدة، خاصة خلال السنوات الأخيرة، فأنا أعمل في أحد المصانع بمنطقة «سيدي حسين». قساوة الحياة ومصاريف شهر الصيام، فعيد الفطر المبارك وصولا الى العودة المدرسية مسلسل رعب أبطاله الصغار وضحاياه الكبار «ستّار ربي وبرّة». «صورة متواترة سنويا» وحول اتجاه الناس الى أسواق الفريب والبحث في ما اذا كانت الظاهرة جديدة في مجتمعنا، أكد «أحمد»، أحد الباعة في منطقة «ابن خلدون» أن المشهد ليس بالجديد على مجتمعنا ففي الأيام العادية زبائنهم يتشكلون من جميع الشرائح الاجتماعية على حد السواء، لكن قد يزداد في العيد عدد الزبائن وهم من أصحاب الدخل المحدود بحثا عن الأسعار المعقولة، ويقول في هذا الصدد: «يا حسرة على أيام زمان»، فنحن نعيش أزمة كغيرنا، فقد غابت النقود وغابت معها الزبائن، وهناك العديد من المصطلحات التي أصبحت تؤرقنا كما أن جملة: «غالي عليّا وزيد نقصس شوية» أصبحت تشكل فوبيا عند أغلب الباعة». بالرغم من أنها حقيقة واضحة، الا أن هناك العديد من النسوة اللاتي فضلن عدم التحدث عن الأسباب التي جعلتهن يزرن «الفريب»، بينما فضلت مجموعة أخرى من الحضور عدم الحديث تجنبا للاحراج، ثم تابعن السير، وقد يكون ذلك نفس السبب الذي دفع بمن التقيناهم بين «ابن خلدون» و«الحفصية» إلى رفض طلبنا أن نلتقط لهم صورا، وذلك اما خوفا من مواقف أبنائهم أو ردة فعل المجتمع، أو الاثنين على حد السواء. لكن عدم الحديث لم يخف حقيقة لمسناها في أعين وملامح الجميع وتتمثل في أن الاحتفال بعيد الفطر داخل العائلات التونسية يكتسي قيمة اجتماعية عالية، حتى أن الفقر والخصاصة لم يستطيعا الغاءه.