يكتبها: منير بو رمضان تشهد الفترات التي تعقب حصول انتفاضات أو ثورات شعبية، المرور بمرحلة انتقالية يغلب عليها عادة وضع يتسم بغياب الاستقرار، بسبب ما يرافقها من حصول مظاهر «تمرد» على كل ما يحيل على النظام السابق، من رموز وحتى مؤسسات. ما يجعل قيام نظام جديد على أنقاض النظام المنهار، عملية ليست باليسيرة كما يتصور البعض. بل إن تاريخ الشعوب والانتفاضات الكبرى، التي حصلت يعيننا على فهم السيناريوهات المستقبلية في الحالة التونسية، هذا طبعا إلى جانب الاستحضار الواعي للتطور التاريخي والاجتماعي لبلادنا، وهو ما يعطي خصوصية لما ستكون عليه محصلة الانتقال الجاري في المجتمع والدولة بعد ثورة 14 جانفي 2011. بعد مرور سنة ونصف على قيام الثورة التونسية، ظهرت كتابات –وخاصة صحفية – تتحدث عن «انهيار محتمل للوحدة المجتمعية والسياسية الوطنية»، و «تفكك لتراث الدولة» و «عودة لصراع الاثنيات والطوائف»....وهي كتابات أقل ما يقال فيها أنه يغلب عليها الارتباط بالحدث، ومشدودة بخلفيات «سياسية» و«حزبية» وأيضا ايديولوجية، ولا تستند لعمق فكري وتنظيري، ولا إلى فهم للتاريخ السوسيولوجي لتونس. في توصيف لأداء «النخبة»، يقول الجامعي قيس سعيد « ان الطبقة السياسية الحالية بمختلف توجهاتها أضاعت ثورة التونسيين المجيدة وذلك لصالح إيديولوجيات ومصالح مختلفة»، مشيرا الى «ان الأحزاب التونسية فضلت مصلحتها الذاتية على حساب مصالح الوطن الذي يضم الجميع». واشار سعيد الى «أن الحرية في تونس بدأت في التراجع فليس يوم 14 جانفي 2011 كهاته الأيام»، ويستنتج بأن «السياسيين أهدروا حرية الشعب التونسي ولم يفكروا في سمعة وهيبة البلاد». لا يمكن تصور انجاز انتقال ديمقراطي حقيقي لا يستند إلى عمق فلسفي، كما لا يمكن ممارسة السياسة دون عمق ثقافي/ تنظيري، وإلا فإنها مهددة بالتحول إلى «فرقعة سياسية» و «لغو نضالي» على حد تعبير المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي، وهذا هو جزء مما وصلت له الممارسة السياسية في تونس بعد الثورة بسبب ضعف أداء النخب وافتقاد البلاد إلى قيادات فعلية وكاريزمية. بل نلاحظ وجود «ردة» عما تحقق من منجزات –خاصة في المجال السياسي-، تمثلت في تبني البعض لمقولة «نهاية الشرعية بعد 23 أكتوبر القادم»، بل إنها دعت صراحة «لتدخل المؤسسة العسكرية»، وما يعني ذلك من إدخال البلاد في «أزمة سياسية ومؤسساتية»، وإعادة إنتاج لما حصل في الجزائر بعد الانقلاب على انتخابات أكتوبر 1991، والذي أدخل البلاد في أتون سنوات سوداء ما تزال تعاني منها، ولم تشف منها إلى الآن. ان الترويج «لأزمة شرعية» بعد 23 أكتوبر القادم، يمثل تراجعا عن مكاسب الثورة، فمثلما فاجأ التونسيون العالم بانجاز أول ثورة في القرن الواحد والعشرين، فقد تمكنت النخب السياسية التونسية، وبفضل الاستناد الى تراثها الاصلاحي الذي يعود الى النصف الثاني من القرن 18، الذي أسس لقيام تراث دولة وطنية مركزية، اضافة الى وجود وحدة ترابية وتجانس مجتمعي من ادارة الشأن العام و«الحالة الثورية» التي دخلت فيها البلاد على قاعدة التوافق بين كل التيارات والحساسيات الفكرية والسياسية. وهو ما مكن من الوصول الى تنظيم انتخابات ديمقراطية ونزيهة أعادت تونس في أقل من سنة الى الشرعية المؤسساتية للدولة من خلال انتخاب مجلس وطني تأسيسي، قام بدوره بانتخاب رئيس للبلاد الذي كلف الكتلة المتحصلة على أغلبية المقاعد بتشكيل الحكومة. كل هذه الحلقات تمت بطريقة سلسة، وأعطت مؤشرا على أن النخب التونسية قادرة على تأسيس «أنموذج» ديمقراطي يقوم على التداول السلمي على السلطة، وأن التراث التحديثي المتجذر يمثل خير ضمانة أو بالأصح حصانة ضد اعادة انتاج الاستبداد تحت أي «يافطة» كانت، سواء باسم «الحداثة» أو باسم «الدين». ما يفسر أيضا، نجاح الانتقال الديمقراطي التونسي، هو «حياد» و«عقيدة» المؤسسة العسكرية التي قامت بحماية أمن البلاد منذ انطلاق الحركة الاحتجاجية في ديسمبر 2010. واستمرت في تأمين أسباب الاستقرار والأمن وحماية الدولة من الانهيار إلى اليوم، وحتى بعد قيام مؤسسات شرعية منتخبة وفق اخراج تونسي «فارق» وغير مسبوق، من أبرز سيماته كون «الجيش صامتا لكنه حاضر بقوة في المشهد الأمني والسياسي التونسي بعد الثورة». ولعل تمديد «حالة الطوارىء» تجعل المؤسسة العسكرية هي المعنية بمتابعة ادارة شؤون البلاد الأمنية. بعد الثورة، وبرغم سنوات «التهميش» الطويلة التى تعرضت لها المؤسسة العسكرية، فانها كانت في الموعد، وتحركت لحماية الأمن والحفاظ على استمرارية المناشط والمرافق الحياتية. فحرس جيشنا الوطني مؤسسات الدولة، وأشرف على حسن سير الامتحانات الوطنية (الباكالوريا)، وصابة القمح والشعير والزراعات الكبرى، وكذلك انتخابات 23 أكتوبر 2011. وبرغم محورية ومركزية الدور الذي لعبته فقد حافظت المؤسسة العسكرية على حياديتها لكن في هذه المرة كان «حيادها ايجابيا». وأكدت أنها لا ترغب بل «زاهدة في السلطة» ,وان تحركها أملته «عقيدتها الوطنية» في المقام الأول وأن «السياسة للسياسيين».