بقلم: مصطفى قوبعة يستأنف المجلس الوطني التأسيسي اليوم الاثنين أشغاله في أجواء أقل ما يقال عنها أنها غير مريحة سواء صلب الائتلاف الحاكم، أو بين الائتلاف الحاكم من جهة وشرائح واسعة من المعارضة من جهة أخرى أو حتى صلب حركة «النهضة» ذاتها على خلفية مستجدات الفترة الأخيرة بالخصوص. هذه الأجواء لن تلقي بظلالها سلبا على المجلس الوطني التأسيسي فقط، بل ستكون كذلك إيذانا بعودة سياسية ساخنة ومرشحة للعديد من التطورات على المستويين السياسي والاجتماعي. ومن المتوقع في خضم هذه التطورات أن تكون مسألة الدستور في مقدمة الملفات الحارقة التي ستستأثر باهتمام الطبقة السياسية والرأي العام على حد سواء. ومعلوم أن الأمر عدد 1086 لسنة 2011 المؤرخ في 3 أوت 2011 المتعلق بدعوة الناخبين لانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي وخاصة الفصل السادس منه سيكون موضوع جدال سياسي/ قانوني نأمل أن تتغلب فيه مصلحة الوطن أولا وأخيرا، وأن يتم بناء على هذه المصلحة العليا تصحيح مسار المجلس الوطني التأسيسي على أساس توافق وإجماع وطنيين واضحين لا لبس عليهما، وخلاف ذلك يعني ببساطة انسداد الأفق السياسي أمام أهم الاستحقاقات. ومعلوم أن الفصل 6 من الأمر المذكور ينص صراحة على أن «يجتمع المجلس التأسيسي بعد تصريح الهيئة المركزية للهيئة العليا للانتخابات بالنتائج النهائية للاقتراع ويتولى إعداد دستور للبلاد في أجل أقصاه سنة من تاريخ انتخابه». اليوم، وقبل شهر وثلاثة أسابيع من الموعد الذي حدده الأمر المذكور نتوقف على الملاحظات الرئيسية التالية: أولا: إن هذا النص القانوني، وفي مختلف مراحل إعداده وأثناء وبعد نشره لم يكن محل طعن من أي طرف سياسي كان. ثانيا: إن شرعية الملجس الوطني التأسيسي انبنت على أحكام هذا الأمر بما تحمله من التزامات قانونية وأخرى أخلاقية ومعنوية على جميع الأطراف المعنية. ثالثا: إن المجلس الوطني التأسيسي منذ تنصيبه بتاريخ 22 نوفمبر 2011 إلى غاية هذا التاريخ لم يحمل نفسه عناء النظر في هذا الموعد والاتفاق على موعد جديد للانتهاء من إعداد الدستور وهو أقل ما تقتضيه القواعد التي تسوس دولة تطمح لأن تكون دولة القانون والمؤسسات. ولما كان الوضع على النحو المذكور فإن مؤسسة المجلس التأسيسي والمؤسستين المنبثقتين عنه (مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الحكومة) هي مؤسسات فاقدة للشرعية مع حلول موعد 23 أكتوبر 2012 إن لم يأت في الأثناء ما يخالف ذلك. رابعا: يمكن القبول بأن الأجل الذي وضعه الأمر لإعداد دستور البلاد والمحدد بسنة على أقصى تقدير هو أجل قابل للنقاش القانوني، إن كان أجلا باتا ملزما أو أو أجلا توجيهيا استحثاثيا، وحتى في صورة إقرار صبغته التوجيهية، فإنه يتعين تقدير تجاوز معقول ومعلل لهذا الأجل. خامسا: ثمة تأخير بيّن في إعداد دستور البلاد دون أن نجد له في المقابل التبريرات المقنعة، وهذا التأخير يستحيل تداركه خلال الفترة المتبقية عن موعد 23 أكتوبر القادم، فحتى مسودة الدستور لم يتم الشروع بعد في مناقشتها. سادسا: وهل من باب الصدفة أن يرافق هذا التأخير في إعداد الدستور التفاف حول موضوع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وعدم التعامل معه بالجدية المطلوبة؟ هذه الجملة من الملاحظات البسيطة لا تبعث على الاطمئنان، وكأن السيد مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي شعر ببعض القلق حيال هذا الموضوع وبتداعياته الخطيرة، فحاول استباق الأحداث، فتكلم عنه في تدخله بمناسبة افتتاح أشغال المؤتمر الوطني الثاني لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وياليته ما تكلم. قال السيد مصطفى بن جعفر من جملة ما قال في سياق حديثه عن هذا الموضوع أن الملجس التأسيسي هو سيد نفسه، وجهل أو تجاهل أنه سيد نفسه فقط في حدود ما أنشئ من أجله وهو الذي أنشئ قانونيا وأخلاقيا من أجل إعداد دستور للبلاد في أجل أقصاه سنة. ثم قام السيد رئيس المجلس التأسيسي بمقارنة في غير محلها بتاتا بين أشغال المجلس القومي التأسيسي الذي دامت أشغاله ثلاث سنوات ابتداء من 1957 وأشغال الملجس الوطني التأسيسي الحالي، وكأنه ثمة أوجه مقارنة بين وسائل وظروف العمل المتوفرة قبل خمس وخمسين سنة مضت، ووسائل وظروف العمل المتوفرة حاليا، أو بين رصيد تونس اليوم من القانون الدستوري ومن القانون الدستوري المقارن وبين الرصيد المتوفر آنذاك، أو بين خبرات وكفاءات تلك الفترة وبين خبرات وكفاءات الفترة الحالية إلخ.. ولم يغب عن السيد مصطفى بن جعفر سوى أن يذكرنا بالمناسبة بالمدة التي استغرقها إعداد دستور عهد الأمان كما دستور قرطاج! وبمنطق «معيز ولو طاروا» يختم حديثه في الموضوع بالتأكيد على أن شرعية المجلس لن تنتهي يوم 23 أكتوبر 2012 دون أن يفيد مستمعيه بمخرج قانوني لهذه الأزمة المرتقبة.. ولا غرابة في ذلك فالبت في هذا الإشكال يتجاوز قدرات مطرقته العجيبة! ومن الخلف، يأتي السيد محمد عبو ومن بعيد ليصرح وفق ما تداولته عديد المواقع الإعلامية بأن «المنادين بسقوط الشرعية يوم 23 أكتوبر القادم وبتنظيم مسيرات سيقع تفريقهم ببعض قنابل مسيلة للدموع». نتفهم أن يصدر مثل هذا الكلام من السيد رئيس الحكومة أو من السيد وزير الداخلية، إما أن صح أنه صدر عن أمين عام لحزب سياسي متآكل، فوت في مقعده بالمجلس التأسيسي ليتفرغ كما ادعى لمهامه الحكومية، ولينتهي به المطاف إلى الاستقالة من الحكومة، فإنه سيبقى وصمة عار على جبينه وعلى جبين الحزب الذي يتحمل مسؤولية أمانته العامة. قد يذهب في ظن السيد محمد عبو أنه سيسدي بكلامه هذا خدمة ثمينة ومجانية للغير، والحال أنه جديدر فقط بتوبيخ شديد اللهجة ألقه من السيد وزير الداخلية. وآخر الكلام ما قاله الفيلسوف نيتشة «أحيانا لا يرغب الناس في سماع الحقيقة لأنهم لا يريدون أن تتحطم أوهامهم».