هو شاب نحيف طويل القامة. فجأة وبلا ميعاد طرق باب مكتب «التونسية» بحاجب العيون... حال مصافحتنا له ألقى أمامنا بحزمة من الشهادات والوصفات الطبية لإثبات صحّة المعلومات التي جاء للإدلاء بها عن طيبة خاطر .وهي عبارة عن مجموعة من المغامرات التي لم يحك عنها السندباد في مغامراته إلى ما وراء البحار وكذلك لم تقصّها شهرزاد على شهريار في حكايات ألف ليلة... بعد استراحة قصيرة استرجع خلالها البعض من أنفاسه استطرد في الحديث قائلا: اسمي أنيس بن البشير القراوي من مواليد حاجب العيون بتاريخ 8 جويلية 1983. كلّ ما أذكره أنّني إلى الأمس القريب كنت أعيش حياة طبيعية وأمارس نشاطا عاديا يتمثل بالأساس في ارتياد الفضاءات الثقافية والشبابية حيث تشدّني مجموعة من الأنشطة الفكرية المختلفة لعلّ أبرزها الاهتمام بموسيقى «الراب» التي استهوتني كثيرا فخضت فيها تجربة الكتابة التي أثمرت نصوصا في مجالات مختلفة. ثمّ كان التحوّل المفاجئ في حياتي مع انطلاق ثورة 14 جانفي حين انخرطت بصفة تطوّعية ودون ضغوطات رفقة مجموعة من زملائي الشباب في دعم مجموعة من الأنشطة الفكرية التي تقوم بها حركة «النهضة» بحاجب العيون. على غرار الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وتصحيح مجموعة من الأفكار الخاطئة التي تناولها بالنقد الدكتور محمد الطالبي حول السيرة الذاتية للسيدة عائشة. وقد تواصل نشاطي هذا قرابة ستة أشهر ثمّ فجأة ودون سابق برمجة راودتني فكرة الالتحاق بإحدى المدارس الدينية وتحديدا مدرسة «الخطيب الإدريسي» بمعتمدية بن عون من ولاية سيدي بوزيد . غير أنّه بتحوّلي إليها وقع إعلامي أنه يتعذر عليّ ذلك لأنّها كانت ساعتها بصدد الإنشاء. وقد نصحني الخطيب الإدريسي بالتحوّل الى جامع الهداية بمدينة سوسة لطلب العلم هناك باعتباره جامعا مكتملا خاصّة وهو يتميز عن بقية الجوامع الأخرى بتوفير المبيت لطالبي العلم والمعرفة . وبالتحاقي بجامع الهداية بسوسة صادف تواجدي هناك الانطلاق في رسكلة علمية حول «علم الحديث وحفظ القرآن» تحت إشراف العالم محمد أمين الشنقيطي وهو سوريّ الجنسية.إلى جانب عالم آخر يدعى الصادق المهدي وهو تونسي على ما أظنّ. وخلال فترة تلقّي العلم بجامع سوسة التي امتدّت إلى أربعة أشهر تعرّفت هناك على مجموعة من الشباب والكهول الذي كانوا يرتادون الجوامع المجاورة لجامع الهداية على غرار جوامع «المؤمن» و«بلال» و«القرية». وللأمانة الإعلامية أقول أنني قد وجدت المعاملة الطيبة من جميع مرتادي الجامع الذين ساعدوني على توفير الأكل والمبيت فكنت أشتغل بالنهار في مجال بيع الأحذية بفضاء «البلاد العربي» بسوسة مع أحد الزملاء من المنتمين إلى التيار السّلفي. وفي المساء كنت أتابع دروسا توعوية في مجال الدين والهداية وخاصّة علم الحديث الصحيح وحفظ القرآن. وشاءت الأقدار أن يكون تواجدي هناك متزامنا مع الأحداث التي جدّت بمدينة سوسة بسبب تداعيات معرض الرسوم بقصر العبدليّة والتي تكثفت فيها المظاهرات آنذاك. وصادف خلالها أن طلب منّي أحد الأصدقاء من جهة قبلّي يدعى علي فكرة التنقل صحبة مرافق آخر يدعي محمد أصيل معتمدية الوسلاتية للعمل في مجال الفلاحة بضيعة خاصة أين مكثنا عنده لمدة أربعة أيام ولكننا سريعا ما أحسسنا بضيق مكان الإقامة فراودتنا من جديد فكرة البحث عن أحد الفضاءات الأخرى (جامع مثلا) لتأمين السلامة بدرجة أولى. لذلك تحوّلنا ليلا إلى مجموعة من المساجد المتواجدة باعتبارها قريبة من الضيعة التي كنا نعمل بها أين وقع اشعارنا باستحالة المبيت هناك. لذلك واصلنا عملية البحث حتى انتهى بنا المطاف الى «جامع النّور» بحيّ خالد بن الوليد بمنطقة «البودرية» بدوّار هيشر. حيث استقبلتنا مجموعة من الشباب المنتمين إلى التيار السّلفي وأذكر من بينهم كلّ من المدعوين قيس وأشرف وعلاء الدين الذين طلبوا منّا مدّهم ببعض المعطيات الشخصية تتعلّق بهويتنا والجهة التي أتينا منها. وبعد تلك الإجراءات والاطمئنان إلينا خاصّة وقد أعلمتهم أنني كنت في السابق انتمي إلى حركة «النهضة» باعتباري أرى فيها مشروع حركة اسلامية لا أكثر ولا أقلّ. ثمّ استقرّ بي المقام بجامع النّور قرابة الشهر والنصف في حين غادره زميلي محمد بعد أسبوع فقط حيث بقيت أعمل في حضائر البناء وفي المساء أقصد جامع النور للمبيت. وكنت في الوقت نفسه أقتات من مداخيل عملي اليومي وفجأة راودتني فكرة العودة إلى مسقط رأسي بحاجب العيون. بعد نفاد مدخراتي المالية فهاتفت أهلي قصد مدّي بحوالة بريدية تساعدني على الرجوع بسرعة فاستجابت والدتي لمكالمتي وأرسلت لي مبلغا ماليا قدره خمسين دينارا مع احد أبناء البلدة الذي سلّمني المبلغ مباشرة بفضاء المعرض الدولي بالكرم أين كانت حركة «النهضة» تنظم آنذاك أحد اجتماعاتها الكبرى.وقد توجّهت ساعتها مع أحد المرافقين يدعى جهاد باعتباري أجهل العناوين والمحطات بتونس العاصمة. ومن يومها بدأت أشعر بمراقبة لصيقة من قبل بعض العناصر المقيمة معي بجامع النّور .حيث أصبحت جميع تصرّفاتي العفويّة محلّ شكّ وريبة من قبلهم بدعوى أنني حين توجهت إلى فضاء معرض الكرم كنت بصدد التجسّس عليهم وايصال معلومات إلى قادة حركة «النهضة» تتعلق بمعلومات سرّية حول نشاط المنتمين إلى السلفية الجهادية. ومن يومها لم يبادلوني الطمأنينة وقد حدث ذلك زمن إلقاء محاضرة قدمها بجامع النور الداعية أبو عياض وبالتالي أصبحت عرضة للضرب والتعذيب من قبل هؤلاء الأشخاص وذلك في رحاب المسجد وتحديدا داخل غرفة المؤذن. حيث اعتدي عليّ أثناء اللّيل كلّ من الثلاثي حمدي وعلاء ونصر الدين وذلك بحضور المؤذن أيمن العمدوني الذي قتل مؤخرا في حادثة دوّار هيشر حيث لم يحرّك ساكنا «والله على ما أقول شهيد». وقد تزامن ذلك مع حلول شهر رمضان حين قرّرت مغادرة مكان اقامتي بالجامع نهائيا. غير أن المدعوّ حمدي منعني من ذلك تحت التهديد بالقوّة والكلام الجارح. وفي المقابل طمأنني الإمام الخطيب بالجامع المدعوّ نصر الدين العلوي الذي أقرضني بالمناسبة عشرة دنانير ودعاني ذات مرّة إلى الإفطار بأحد المطاعم المجاورة للجامع . وحيث أنني لم أعد اشعر بالراحة النفسية في ظلّ ما لاحظته من الاعتداءات المجانية التي يقوم بها الشباب القابع بالمسجد تجاه المواطنين العزل أثناء الليل. والتي تتمثل بالأساس في اعتداءات بواسطة السّيوف والعصيّ والحجارة بدعوى التصدّي لكلّ المظاهر المسيئة للأخلاق بما في ذلك شرب وبيع الخمر بالمنطقة. وقد ساندتهم في شطحاتهم تلك مجموعة من الأطفال الأبرياء الصغار. وأذكر جيدا أنه ذات مرّة شاركت في حملة تطوّعية للتضامن مع مجموعة من شباب جامع «البدر» القريب من جامع النور خلال شهر رمضان المنقضي. فقابلت أحد الشيوخ يدعى الشاذلي الذي أخبرته باطوار سفرتي الطويلة وأنّي براء من جميع التهم التي نسبتها لي مجموعة التيار السّلفي وقد شكوته ظاهرة التكفير التي لاحظتها متواجدة بكثافة بجامع النّور. لذلك حذّرني من مغبّة العودة إلى هناك باعتبار ان جامع النّور يشهد فتنة كبيرة .وبعد تعاطفه معي كلّف أحد أتباعه المدعو ابراهيم البرهومي بنقلي عبر دراجته النارية إلى جامع «الحرمين» بنفس الدائرة الترابية أين قضيت ليلتي هناك وسردت على الحاضرين قصّتي غير أنّ أحد الحاضرين نقلها في صباح اليوم الموالي عن حسن نيّة إلى مجموعة السلفية الجهادية بجامع النور وذلك بهدف الكفّ عن ملاحقتي غير أنّني فوجئت في اليوم الموالي بمجيء كلّ من علاء وحمدي وايمن العمدوني الذين نقلوني على دراجات نارية إلى جامع النور حيث تداولوا على ضربي من جديد حتى انبلاج الفجر. وذلك على امتداد أيام متعدّدة تعرّضت خلالها إلى مختلف فنون التعذيب والضرب بالعصيّ والتهديد بالذبح خاصّة حين نقلوني الى جامع المركب الجامعي campus حيث أدخلوني الغابة ووضعوني موضع الشاة والسكّين على رقبتي قبل أن يفتكّوا منّي مجموعة من الإجابات عن أسئلة تتعلّق بحقيقة انتمائي ولكنهم في النهاية تراجعوا عن فكرة قتلي واكتفوا بمصادرة أوراقي الشخصية بما في ذلك بطاقة التعريف الوطنية والتقطوا لي مشاهد بالفيديو بدعوى أنني مخبر لحركة «النهضة» وكذلك طالبوني بمدّهم بجميع الأرقام الهاتفية لأفراد عائلتي وعنوان إقامتي بحاجب العيون. ثمّ هدّدوني بسوء العاقبة في حال رفعي الدعوى ضدّهم بهم لدى المصالح الأمنية. عندها تحاملت على نفسي وغادرت منطقة دوّار هيشر برفقة الثنائي نصرالدين وصبري باتجاه محطة سوسة التي توجهت إليها حيث توجد إحدى شقيقاتي التي سردت على مسامعها حكايتي المأساوية. فتحرّكت بسرعة في مرحلة أولى لمعالجة جراحي بمستشفى فرحات حشاد بعد أن تعرّضت لعديد الإصابات على مستوى الفخذ والرجلين والظهر ممّا تسبّب لي في كسور ببعض الأضلع قبل أن تنقلني في مرحلة لاحقة إلى شاطئ رفراف في محاولة للاستجمام ومداواة جراحي المتعدّدة. وقد انتهى بي المطاف إلى تقديم قضية عدلية ضدّ هؤلاء المنتمين الى السّلفيّة الجهادية بجامع النّوربدوّار هيشر. وهي قضية منشورة لدى مركز الحرس بفرقة الأبحاث والتفتيش بمنوبة .وقد أرفقتها بشهادات طبّية في الغرض... وهنا انتهى حديث أنيس القرّاوي الذي أراد من خلاله تسليط الأضواء حول تصرّفات «البعض» من المنتمين إلى هذه الحركة الجهادية عساها تكون درسا وعبرة ونقطة ضوء يستنير بها بقية الشباب الذي يبحث عن مغامرات مجهولة العواق.