كانت والدتي رحمها الله، كلما تذمرت أنأ أو أحد اخوتي من غيابها عن البيت أو تأخرها في الرجوع إليه، ونحن لا نعرف أن السبب وراء ذلك كان ذهابها لتقديم واجب العزاء، تردد على مسامعنا قولها: «الأعراس بالدعوات... أما المآتم فبالفزعات». (تنطق الكلمة الأخيرة بحرف ال «ف» منصوب وبسكون على حرف ال « ز») وتعني هنا الإسراع بالشيء. الأرجح أن قول أمي مثل شعبي، وقد يكون معروفا في أكثر من مدينة تونسية، وهو يعني تقريبا، أنك لا تستطيع الذهاب إلى أفراح الناس إلا إذا وجهوا إليك الدعوة، لكنك لا تستطيع أن تتخلف عن تقديم واجب العزاء لمن تربطك بهم علاقة مهما كانت المبررات. كانت والدتي رحمها الله لا تتخلف مطلقا عن القيام بواجب العزاء لكل من تعرفهم من قريب أو من بعيد. وغالبا ما أوصتني وإخوتي بالقيام بالشيء نفسه. وأكثر من ذلك كانت تقول لنا إنّ العزاء واجب حتى إن كنت على خصومة مع الشخص الذي فقد عزيزا عليه. وهو بالطبع واجب إزاء عائلة الفقيد وإن كنت على خلاف مع المتوفى نفسه. استحضرت أقوال أمي هذه بمناسبة وفاة طارق المكي رحمه الله، وذلك بعد ما لوحظ غياب شبه كلي للشخصيات السياسية الوطنية، وخاصة ممثلو الأحزاب السياسية، والحال أن الفقيد كان رئيس حزب سياسي، وعرف في الأيام السابقة لثورة 14 جانفي 2011 بتحركات سياسية وإعلامية عديدة ... والمؤكد أن العديد من العلاقات قد ربطته بعدد من السياسيين ورؤساء الأحزاب. فهل انتظر هؤلاء تلقي دعوات لحضور جنازته وتقديم العزاء لعائلته؟ الشيء الآخر الذي استحضرته هو صور سياسيينا وهم يهرولون حينما يتعلق الأمر باحتجاجات أو أحداث أو بتظاهرات تجلب عادة العديد من القنوات التلفزية وتبث تغطياتها في نشرات الأخبار الرئيسية، فيتدافعون من أجل الفوز بمكان في الصفوف الأمامية، وحيثما تتجول «الكاميراوات» دون أن يكونوا أحيانا مدعوين. فكيف يسمح بعض السياسيين لأنفسهم بعد ذلك بالحديث عن وجوب التحلي بالأخلاق في العمل السياسي، وبوجوب احترام الخصوم، ولا يفوتن الفرصة للتباكي كلما أحسوا أنهم ظلموا أو كانوا عرضة لحملات غير أخلاقية، والحال أنهم لا يحترمون حتى قدسية الموت وما تتطلبه من واجبات أقلها تقديم العزاء ؟ فهل بهذه الممارسات يؤسس السياسيون لعلاقات سليمة في ما بينهم؟ وهل هذه هي الصورة التي يرغبون أن يراهم عليها الشعب. صورة عدم احترامهم لبعضهم البعض حتى في لحظة الموت؟ يبدو أن بعض القيم التي تربينا عليها أصبحت بلا معنى في موازين محترفي السياسة في بلادنا ...وأن لا شيء يهم الأغلبية منهم غير المصالح والحسابات، حتى وإن تعلق الأمر بالموت... وأن العزاء واجب حين يتعلق الأمر بأصدقاء المرحلة والحلفاء... أما البقية من غير هؤلاء فلا حرج من تجاهل لحظة وفاتهم.