قبل أيام سقط جزء من سقف مدرسة بمدينة قابس على رؤوس التلاميذ.. وفي مفتتح السنة الدراسية الحالية تعذر على تلاميذ مدرسة أخرى شمال البلاد استئناف الدروس لأكثر من شهر لوجود هذه المدرسة في مجرى واد ... هذه ليست سوى مجرد عينة لأحداث من المؤكد أن الكثير مما يشبهها قد جد في أماكن أخرى من البلاد. أما الأمراض المزمنة لمدرستنا فلها صور وتجليات أخرى .... ففي أرياف تونس النائية يواصل بعض أبنائنا رحلتهم اليومية المضنية مشيا على الأقدام ولكيلومترات عديدة عبر مسالك وعرة للوصول إلى قاعات درس أشبه ب «الغاراجات» تنفخ فيها الرياح في عز أيام الشتاء وبرده القارس... قاعات تفتقد لكل شيء تقريبا عدا إرادة مربين فاضلين وضميرهم الحي، وشجاعة صبيان وفتيات في عمر الزهور، يلاحقون درسا أصبح بحق مرا. وعلى مشارف العاصمة والمدن الكبرى تختنق عديد قاعات الدرس في المدارس والمعاهد بضعف طاقات استيعابها، ويأخذ العنف في ساحاتها وأمام أبوابها الرئيسية كل يوم أشكالا جديدة... وتتآكل في كل لحظة صورة المربي، وينزل البعض بمكانته إلى الدرك الأسفل، ويمرغها في الوحل...في حين يواصل البعض الآخر ممن لا يستحقون صفة المربي الذي كاد أن يكون رسولا، استنزاف جيوب العائلات التونسية، في ظل عجز مريب من سلطة الإشراف، بتحويلهم المدرسة إلى ما يشبه السوق التي يباع فيها العلم ويشترى كأية بضاعة أخرى، من خلال الدروس الخصوصية التي جعلوا منها ركنا ثابتا في المنظومة التربوية، فيكدسون الأموال الطائلة على حساب معاناة عائلات بسيطة متواضعة الإمكانيات ذنبها الوحيد أنها تؤمن بالعلم والتعلم، ومستعدة لكل التضحيات من أجل نجاح أبنائها. أما اليوم فقد أصبحنا نتحدث وببرودة غريبة وقاتلة، عن تفشي ظاهرة استهلاك المخدرات والمسكرات ومواد التنشيط في بعض الأوساط المدرسية، مثلما نتحدث عن أية ظاهرة اجتماعية أخرى عادية، دون أن نفعل أي شيء لهذا الخطر الداهم الذي يهدد المجتمع بأسره لا الفضاء التربوي وحده. هذا الفضاء الذي أصبح نصيب الأحداث التي تجد فيه يمثل مكونا أساسيا في صفحات المحاكم والمجتمع في الصحف بسبب تتالي الاعتداءات على المربين وارتفاع منسوب العنف بين التلاميذ أنفسهم. إذا كان الأمر كذلك، فعلى السياسيين في بلادنا أن يعلموا - ونحن في أوج التسخين لمعارك انتخابية مقبلة - أنه في أعرق الديمقراطيات غالبا ما تكون شؤون التربية والمدرسة من النقاط الأولى التي تركز عليها برامج المترشحين لمناصب سياسية سواء تعلق الأمر بانتخابات رئاسية أو تشريعية. ومن حيث الأولوية غالبا ما تأتي شؤون التربية والتعليم قبل قضايا السكن والضرائب وحتى الصحة. لأن المدرسة تمثل أحد أهم محاور اهتمامات الناخبين. وليس في الأمر أية غرابة، فكل الفئات وفي كل المجتمعات شرقا وغربا تولي اليوم المدرسة اهتماما خاصا، وتعتبر أن التعليم يظل البوابة الأساسية لتبوء مكانة هامة في المجتمع. ولئن كان الأمر لا يختلف عند التونسيين فإن الوضع الذي وصلت إليه مدرستنا لم يعد يحتمل الانتظار، وهو يستحق أكثر من مجرد جلسة مساءلة لوزير التربية في المجلس الوطني التأسيسي، مرت دون أن تثير انتباها يذكر بسبب الأجواء السياسية الصاخبة التي تعيشها البلاد، وحمى الحديث عن تحوير وزاري شل كل التحركات والمبادرات. إن ما نحن بحاجة إليه اليوم بخصوص التربية والتعليم والمنظومة التربوية، سواء بقي الوزير الحالي أو انصرف، هو فتح حوار جدي وعميق لإيقاف هذا التقهقر الذي تردت فيه مدرستنا، وتقليب كل صفحات هذا الملف الشائك قبل فوات الأوان واتخاذ الإجراءات اللازمة لتصحيح الكثير من الأشياء بشكل عاجل، والتفكير في إصلاحات جوهرية يبدأ تطبيق ما يمكن تطبيقه منها في مفتتح السنة الدراسية المقبلة، وإلا فإن رحلة سقوط مدرستنا إلى الهاوية ستكون أسرع بكثير مما يتصوره البعض .. وتلك أكبر الكوارث.