بسمة الواعر بركات عالم السياسة مليء بالألغاز والمفاجآت ومهما حاولنا فهم خباياه فإنّ كل ما يظهر للعيان هو مجرّد نزر من كثير. فالمتأمل في المشهد السياسي الحالي يلاحظ بروز عديد المستجدات على الساحة السياسية وبداية التغييرات التي أعادت من خلالها حركة «النهضة» خلط أوراقها من جديد وتمكنت بفضلها من ترتيب بيتها الداخلي وتعديل الكفّة من جديد دون أن تضطرّ إلى تقديم تنازلات حقيقية. قد يبدو للرأي العام ولبعض السياسيين ان هناك صراعات جوهرية داخل حركة «النهضة» وان الخلافات بين الجناحين المتشدد والمعتدل كبيرة وعميقة وهو ما جعل البعض يعتقد ان نجم «النهضة» بدأ يأفل وشعبيتها تتآكل لكن لا يجب أن ننسى انه وفي عالم السياسة دائما هناك ورقات خفية يمكن المراهنة عليها متى دعت الحاجة إلى ذلك وهو ما مكّن الحركة ربما من قطع أشواط كبيرة نحو المستقبل والتحضير لمرحلة الإنتخابات القادمة بكل ذكاء ودهاء. يرى بعض الملاحظين ان قيام «النهضة» بترميم البيت الداخلي وإدخال تعديلات على رأس الحكومة لم يكن «صدفة» بل جاء بفضل ما إكتسبته الحركة من خبرة وحنكة سياسية سواء من خلال فترة حكمها القصيرة أو بفضل مشاورات مستفيضة مع أهل الإختصاص وقد يكون بالتنسيق مع مكاتب مختصة في الغرض. فالمتأمل في تفاصيل ما حدث رغم تسارع الأحداث يلاحظ ان بداية التغيير كانت ب«خطاب الجبالي» الذي يظهر من خلاله أنه رافض لبطء الإصلاحات مستعد للحوار مع المعارضة قريب من الشعب ومتمرد على «الحركة» في حدود المسموح به «طبعا» وبالتالي جاء قراره بتشكيل حكومة «تكنوقراط» غير متحزبة ثم الإستقالة ليعيّن «علي لعريض» رئيسا للحكومة... قرار «الجبالي» أربك ظاهريا «النهضة» وربما أدخل عنصر المفاجأة على الساحة السياسية التي لم تكن تتوقع هذه الخطوة من «ساكن» القصبة وربما أثلج صدر «المعارضة» التي كانت تتوق إلى خطاب يشفي غليلها فما بالنا عندما يصدر عن رئيس حكومة ومن الأمين العام لحركة «النهضة». لكن إستقالة «الجبالي» هل تعني فعلا إنتصار شق الصقور على شق ظهر للرأي العام انه معتدل ومنفتح؟. حسب بعض المحللّين فإن الدور الحقيقي للجبالي إنطلق منذ إعلان الإستقالة وهو ما يفنّد بعض الأراء التي إعتبرت أنّ دور «الرجل» السياسي انتهى وربما جاءت الإستقالة لتمحو كل ما سبق من عثرات وهنات ومن جانب آخر لإمتصاص سخط الشارع على الحكومة. فبالعودة إلى الأشهر الماضية لاحظنا أن عديد الأطراف السياسية حمّلت حكومة «الجبالي» مسؤولية الفشل الحاصل فلا التنمية تحققت ولا المشاريع المرتقبة أنجزت هذا بالإضافة إلى وضع الإقتصاد الحرج للغاية ولاحظنا كيف ان التحوير الوزاري الذي تم الإعلان عنه في عديد المناسبات لم ينّفذ وبدت الحكومة أو تظاهرت أنها مرتبكة وعاجزة عن القيام بأبسط المهام والتعديلات وبما أنّ الفشل كان السمة الطاغية على الحكومة المستقيلة فقد كان المأزق كبيرا وزادت حدة الإنتقادات بين حكومة «مهتزة» وشعب يطالب بتحقيق أهداف الثورة. ويبدو ان إهتزاز صورة الحكومة لم يكن في الداخل فقط بل وصل مداه إلى الخارج وظهر بالأخص في زيارة الجبالي إلى «الجزائر» حيث بدا الإستقبال فاترا وقوبلت الزيارة بالكثير من التردد ولاحظنا كيف أجّل عديد الرؤساء والوزراء زياراتهم إلى تونس أمام ضبابية المشهد السياسي وغياب الرؤية الواضحة. وبالعودة إلى آخر إستطلاعات الرأي فقد كان واضحا تراجع شعبية «النهضة» وفقدانها لمرتبتها المتقدمة وبداية تراجعها عن الصفوف الأمامية وكان من البديهي أن تستفيد القوى المنافسة وبالأخص المعارضة من هذا التراجع فبدأت تتشكل الأقطاب وتوطدت التحالفات يوما بعد يوم في حين كانت عديد الأحزاب ترفض الإنضمام إلى الإئتلاف الحاكم وتتحاشى الإغراءات التي قدمتها الحركة. وقد تكون «النهضة» استشعرت الخطر الداهم وشعرت ان البساط يسحب من تحت قدميها وبالأخص بعد الهبّة الشعبية التي ظهرت مباشرة بعد إغتيال الشهيد «شكري بلعيد» وأمام ضغط الشارع تم التعجيل بخلط الأوراق من جديد وقامت الحركة ب«تغيير» مكنّها من قلب المعطيات وإستعادة ثقة الشارع وهكذا كسبت ود المعارضة وخلقت شخصية من شأنها أن تحوز على ثقة الأغلبية في المستقبل القريب. وحسب بعض الملاحظين فإن كل التعديلات التي حدثت مؤخرا لا تعدو ان تكون مجرد «مناورة» سياسية قد تكون حيكت بالتشاور مع مختصين وخبراء في عالم السياسة لأن «التكتيك» للإنتخابات القادمة يقتضي إحداث ما يسمى بالرجة السياسية وكسب الرأي العام الذي بدأ يفقد ثقته في أغلب السياسيين والقادة الحاليين. ويرى بعض المحللين ان «النهضة» دخلت في لعبة ذكية وقد تكون إكتسبت بعد هذه الفترة نوعا من الدهاء السياسي. فما حصل من تصريحات سواء من هذا الجانب أو ذاك لم يكن من فراغ ولم يشكل مفاجئة لا في صفوف الحركة ولا لأغلب قادتها. لكن كيف يمكن قلب موازين القوى والمسك بزمام الأمور من جديد دون التخلي عن السلطة ؟ عندما تشعر بعض الأنظمة أنها فقدت شعبيتها فإنها قد تعتمد على مكاتب مختصة ومستشارين أكفاء ينيرون دربها ويرشدونها إلى المستقبل وهؤلاء يلمعون «صورتها» المهتزة أمام الرأي العام ويقدمون سيناريوهات دقيقة لإعادة التوازنات وكسب «تعاطف» الرأي العام وعادة ما تلعب هذه المكاتب على وتر حسّاس جدّا لاستمالة الرأي العام من جديد مستغلين هشاشة الساحة السياسية ولا يستبعد في مثل هذه الفرضية اللجوء إلى هؤلاء المختصين عندما يكون النظام «في ورطة». فالجبالي الذي دخل القصر الحكومي فاقدا للتجربة والخبرة خرج في النهاية «بطلا» منتصرا والأهم من كل ذلك أنه حاز على ثقة المواطنين وكسب ودّ المعارضين بعد أن تمرّس على العمل السياسي وحذق فن الخطابة التي تدخل القلوب قبل العقول فأغلب العارفين بالرجل يؤكدون أنه لا يخون حزبه ولا يخرج عن بيت الطاعة مهما كانت الخلافات فكيف صدع بتلك الخطابات الجريئة وقام بتلك الخطوات المفاجئة وهو الذي ظل صامتا طيلة أشهر وأشهر؟ لا يستبعد بعض العارفين بخبايا عالم السياسة قيام حركة «النهضة» بمناورة سياسية عبّر عنها البعض بكلمة «المسرحية» فظهر «الجبالي» متمردا رافضا للمحاصصات الحزبية ولكن طبعا ظل رفضه في حدود «ضيقة» ربما رسمت سابقا فلا هو انتقد الحركة ولا تطاول على رئيسها ولا سمّى الأشياء بمسمياتها. قد تكون مثل هذه القرارات «مفاجئة» فعلا لو نفذت على أرض الواقع أو تشكلت فعلا حكومة «تكنوقراط» بعيدا عن المحاصصات الحزبية أو ربما لو عرّى «الجبالي» زعيم التنظيم الذي ينتمى إليه لكن العدول عن تشكيل الحكومة التي حلم الشعب والمعارضة بتشكيلها وإعلان الفشل ثم «الإستقالة» وخروج صاحب القصبة في ثوب البطل دون أن تتزعزع علاقته برئيس الحركة قيد أنملة فكل هذا من شأنه أن يدفعنا إلى طرح بعض التساؤلات البريئة عن «كواليس» مطبخ «النهضة»؟ هل فعلا كان القرار فرديا وحصل دون الرجوع إلى رئيس الحركة أم ان كل ما حصل هو مجرد سيناريو انطلى على جانب كبير من المعارضة وحتى على الشارع التونسي الذي صدّق بسهولة تمرد رئيس الحكومة على حركته ؟ لنفترض جدلا ان «النهضة» لم تخطط لما حدث وان «الجبالي» لم يخرج عن بيت الطاعة وانه لم يتخذ تلك القرارات الحاسمة في ذلك التوقيت وانه لم ينسحب من الحكومة فهل كانت النتائج هي ذاتها ؟ أكيد لا لأن النهضة بإقالة «الجبالي» ضربت عصفورين بحجر واحد فمن جهة كسبت الحكومة المستقيلة ودّ المعارضة وفي المقابل ربحت «النهضة» «رجلا» صار ذا شعبية واسعة وورقة قد تدّخرّها إلى المرحلة القادمة. فالتضحية بحكومة «الجبالي» والتي أجمع الملاحظون على فشلها سمح للحركة بلملمة صفوفها من جديد والخروج من المأزق بذكاء ودهاء. ويرى البعض ان جل التسريبات التي إعتبرت ان «البحيري» هو رئيس الحكومة القادمة كانت أيضا مناورة سياسية لتمهيد تعيين «علي لعريض» على رأس الحكومة الجديدة. فالحركة كانت تدرك جيدا ان الرئاسة لن تقبل بالبحيري رئيسا للحكومة القادمة وبالتالي يبدو للعيان انها تنازلت وغيرت مرشحها وما بقي على الرئاسة سوى القبول بالمرشح الثاني وهو ربما ما مهد الطريق بسهولة أمام «لعريض» الذي كان المرشح الأول للحركة. ففي عالم السياسة تظل كل الحلول ممكنة وربما مباحة وحديث البعض عن إمكانية لجوء «الجبالي» إلى تأسيس حزب جديد على أساس الإعتدال لا يزال ايضا ممكنا وغير مستحيل وقد يمّكن الحركة من الذهاب إلى أبعد من مجرد الإستقالة لأن التخطيط للمستقبل والمراهنة على ورقة «الجبالي» قد يقتضي تغيير «البدلة» وبالتالي قد يكون تشكيل حزب جديد غير مستبعد. فما يظهر وكأنّه «انشقاق» هو في جوهره رد على أغلب التكتلات التي بدأت تتشكل على الساحة وربما لمزيد التحسب للمواعيد القادمة من الممكن أن يستقطب هذا الحزب الكتل الحداثية أو حتى الإسلامية المتفرقة وهو ما من شأنه أن يحدث توازنا وكتلة برلمانية لا بأس بها في المستقبل وبالتالي قد نشهد في المستقبل «النهضة» كحزب تقليدي وحزب «حمادي الجبالي» وما سيفرزه من تحالفات وهو ما قد يجعل «النهضة» تحافظ على الصفوف الأمامية.