شكل تقديم رئيس الحكومة لاستقالته الحدث الأبرز الذي طبع الحياة السياسية الحبلى بالمناكفات والتجاذبات التي ألقت بالبلاد في اتون أزمة سياسية لا نعرف إلى أي مدى ستستمر تبعاتها وإلى أي حد ستكون تونس قادرة على استيعاب الكم الهائل من الكدمات والصعقات المنجرة عن هذا الوضع الذي قد يدرك وقد لا يدرك البعض من السياسيين مدى خطورتها على المستقبل المنظور لتونس التي يتخاصمون على حكمها فأصابوها من حيث يعلمون أو ربما لا يعلمون بجراح قد تندمل وقد تزداد خطورة وعمقا بما يهدد مستقبل كل واحد منا الشخصي أو مستقبل عائلته وأبنائه. آخر هذه الصواعق التي أصابت تونس هي تلك التي جاءتنا من عاصمة الضباب لندن وتحديدا مقر وكالة الترقيم العالمي «ستندارد اند بورز» التي أصدرت سويعات بعد إعلان السيد حمادي الجبالي عن فشل مبادرته قرارا بتخفيض الترقيم السيادي للقروض التونسية طويلة ومتوسطة الأمد بالعملتين المحلية والأجنبية من مستوى (ب ب) إلى مستوى (ب ب سلبي) مع أفق سلبي وهو ما يعني إمكانية إعادة تخفيض هذا الترقيم في المدى القريب إن لم يقع تحسن في المؤشرات التي أدت لهذا الإجراء. وقد يكون من الضروري معرفة الاسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الاجراء الذي اتخذته وكالة الترقيم العالمي وهو ما دفعنا لتقديم هذه القراءة في التقرير المرافق لإجراء التخفيض والذي كان محوره الرئيسي قراءة الوضع السياسي العام بتونس ومدى تأثيره على المؤشرات الاقتصادية الراهنة والمستقبلية. في اغتيال شكري بلعيد على الرغم من محافظة المؤسسات على استقرارها على نطاق واسع منذ خلع الرئيس الأسبق بن علي في بداية سنة 2011 فإننا نعتقد أن المخاطر التي تعترض عملية الانتقال الديمقراطي في تونس قد تصاعدت بشكل ملحوظ خلال الأسابيع الأخيرة وعلى وجه التحديد منذ اغتيال القيادي المعارض شكري بلعيد خلال بداية شهر فيفري. في فشل مبادرة الجبالي وتعطل كتابة الدستور وعدم انجاز الانتخابات كما نعتقد أيضا ان مبادرة رئيس الحكومة المؤقتة قد أبرزت الانقسام العميق داخل الائتلاف الحاكم وهو ما أعاق قدرته على القيام بالإصلاحات الحيوية والإجراءات الضرورية ضد أي انتكاسة اقتصادية أو مالية. إضافة لذلك نعتقد أن أية حكومة انتقالية قد تنبثق عن المشاورات الجارية حاليا قد تحظى بالتأييد الشعبي وأن يكون بإمكانها تحقيق استقرار أفضل وتفادي مخاطر غياب سياسة واضحة وفعلية للمرحلة المقبلة. كما نتوقع، انه من المرجح ألّا يقع تقديم دستور جديد في المرحلة القريبة القادمة وألا تكون هناك انتخابات نزيهة خلال سنة 2013 على عكس ما انتظرناه سابقا بأن تقع هذه الانتخابات خلال شهر مارس 2013. في مؤشرات الاقتصاد الوطني وهشاشة القطاع البنكي النتائج المحققة حديثا ونظرتنا متوسطة الأمد بخصوص نمو الاقتصاد التونسي وكذلك العجز المالي والتجاري، والذي بقي مرتفعا كلها معطيات تؤثر سلبا في الترقيم المسند لتونس. نعتقد ان تواصل هشاشة القطاع البنكي والاضطراب في السياسة الحالية وغياب حكومة بتفويض كاف كلها عوامل تعيق أي تخطيط على المدى المتوسط. ولكن وللإنصاف فإن الاقتصاد التونسي المفتوح والمتنوع والمستوى التعليمي المتميز نسبيا لليد العاملة إلى جانب التشجيعات المتوفرة عموما لتحفيز الاستثمار كلها عوامل مساعدة لتحسين التصنيف الائتماني لتونس. ان تقلص الناتج الداخلي الخام بنسبة 1.8 بالمائة بالقيمة الحقيقية إضافة إلى تخفيض توقعات النمو بالنسبة للبنك الدولي بالنسبة لسنة 2012 إلى مستوى 2.4 بالمائة يجعل توقعات النمو بالنسبة للسنة الحالية 2013 المشوبة بغموض سياسي كبير من شأنه أن يعيق نسق الاستثمار بصورة مشابهة لما شهده هذا القطاع من شلل خلال سنة 2011. في تأثير الاضطرابات الأخيرة على مستقبل القطاع السياحي على الرغم مما سجلته عائدات القطاع السياحي من سيولة نسبية خلال سنة 2012 فإننا نتوقع ان تكون الاضطرابات الأخيرة سببا في تقلص هذا القطاع وبالتالي فإننا نتوقع انخفاض عائداته وهو ما من شأنه ان يوسع رقعة العجز التجاري وهو ما سيؤدي حتما استمرار العجز في الحساب الجاري للدولة والذي قد يظل أكبر من نسبة 5 بالمائة من الناتج الداخلي الخام إلى غاية 2016. علما ان نسبة العجز في الحساب الجاري للدولة وقع تقديرها بالنسبة لسنة 2012 بما قدره 8 بالمائة من الناتج الداخلي الخام. وعلى الرغم من توقعاتنا بأن يواصل المانحون والمقرضون العموميون الاستجابة لحاجيات تونس من التمويلات الخارجية اللازمة لتمويل برامج الحكومة فإن الحاجيات المتأتية من القطاع الخاص يمكن ان تنزل إلى نصف حاجيات تونس الخام من التمويل الخارجي بنهاية 2013 وهذه التمويلات تتأتى أساسا من ودائع غير المقيمين وعائدات التجارة الخارجية حيث نقدر أن تقتصر هذه الموارد على 5 بلايين دولار فقط خلال 2013. كل هذه المعطيات تجعلنا نتوقع أن تكون عملية تعافي الاقتصاد التونسي بطيئة جدا وذلك بالنظر خصوصا للصعوبات التي تعيشها اقتصاديات دول الاتحاد الأوروبي والتي تشكل السوق الأولى للصادرات التونسية والمصدر الأول للاستثمار الخارجي المباشر وكذلك لحرفاء تونس في القطاع السياحي. في ارتفاع معدلات البطالة وتفاقم العجز أما في ما يتعلق بالبطالة والتي بلغت أرقاما مرتفعة وقياسية سنة 2011 والتي لم تسجل تراجعا مقارنة بتلك الفترة فنتصور انها ستبقى السبب الرئيسي في غياب الاستقرار الاجتماعي على المدى المتوسط. ونقدر أن يبلغ العجز في الموازنة العامة للحكومة نسبة 5 بالمائة من الناتج الداخلي الخام لسنة 2012 ونتوقع أن يظل هذا العجز مرتفعا خلال سنة 2013 بالنظر لمستوى الانفاق الحكومي. فحتى ولو افترضنا ان عملية الانتقال الديمقراطي ستتم خلال هذه السنة فإننا نتوقع أن توطيد الوضع المالي سيبقى نسبيا وتدريجيا على اعتبار الظروف الاجتماعية والاقتصادية وذلك نظرا لبقاء نسبة العجز اكبر من 3 بالمائة من الناتج الداخلي الخام إلى غاية 2016. وعليه فإننا نعتقد أن تمويل هذا العجز قد يرفع الدين العام إلى غاية إدراك نسبة 50 بالمائة من الناتج الداخلي الخام خلال سنة 2013 بعد ان كان لا يتعدى 40 بالمائة سنة 2010. في تفاقم الانفاق الحكومي ومحدودية الموارد الجبائية كما نتوقع أن تظل احتياجات التمويل الحكومي مرتفعة وقوية لغاية ان تتمكن حكومة منتخبة من وضع برنامج اقتصادي متوسط الأمد. وهنا، نفهم كيف أن صندوق النقد الدولي سيقوم قريبا بتأكيد اسناد تونس قرضا احتياطيا بقيمة 1.8 بليون دولار ونتوقع أن يساند المانحون الدوليون تونس في انتقالها الديمقراطي، كما نفهم لجوء السلطات التونسية اصدار حوالي 500 مليون أورو في شكل صكوك اسلامية خلال سنة 2013. كذلك يظل تصنيف النظام البنكي كنظام هش ومقيد إلى جانب ضعف الأصول مقارنة بحجم القروض وذلك وفق ما بيناه في تقريرنا بتاريخ 24 سبتمبر الماضي عائقا وحائلا امام التصنيف السيادي حيث تظل نسبة القروض غير المضمنة بأصول حقيقية تتراوح بين 12 و15 بالمائة من مجمل القروض. ومع بقاء الناتج المحلي الاجمالي الفردي تحت مستوى 5000 دولار يمكن اعتبار تونس من الدول ذات الدخل المتوسط على المدى المتوسط والبعيد وهو ما يعيق الدخل الجبائي ويفقده المرونة اللازمة بالنسبة للدولة. في عدم كفاية المناعة الاقتصادية ويبقى أهم رافد ايجابي لتصنيف تونس السيادي هو تنوع النسيج الاقتصادي. حيث تنتج تونس عددا متنوعا من البضائع والخدمات، حيث مثلت المنتجات الفلاحية سنة 2011، 10 بالمائة من الناتج الداخلي الخام والصناعة حوالي 27 بالمائة كما يوفر قطاع الخدمات المتنوع بدوره رافدا لما تبقى من قطاعات التصدير على غرار نماذج من المنتجات الالكترونية والمعادن وبعض المنتجات الفلاحية. أما على مستوى الموارد البشرية فتبقى اليد العاملة متمتعة بمستوى تعليمي محترم حيث يبلغ مستوى التمدرس على مستوى التعليم الابتدائي نسبة 100 بالمائة تقريبا بالنسبة للجنسين، كما ان عدد الإناث يتجاوز عدد الذكور في التعليم العالي وتبلغ نسبة المتعلمين من الكهول حوالي 78 بالمائة. كما خفضنا من الترقيم السيادي بالنسبة للبنك المركزي التونسي على نفس المستوى الذي خفضنا به الترقيم السيادي. ونبقى تحت التهديد أما في ما يتعلق بالانطباع السلبي المرافق لإجراء التخفيض في التامين السيادي فنرجعه اساسا لتوقعاتنا بمزيد تدهور الاستقرار السياسي والاجتماعي وهو اجراء قد يدفعنا إلى مزيد تخفيض هذا الترقيم في صورة عدم تحقق توقعاتنا الحالية على مستوى المؤشرات الاقتصادية والمالية والمقاييس الخارجية. ان المستوى الحالي للتصنيف لا يمكن ان يحافظ على مستواه دون تدحرج إلا في صورة النجاح في تحقيق انتقال ديمقراطي سريع ودون تأخير وباحتجاب كل انواع الاضطرابات السياسية والشلل السياسي مع نجاح الحكومة في وضع برامج واضحة تتمكن معها من استعادة نسق النمو والحد من العجز في الموازنة.