«ضحيّت بكليتي لأنقذ طفلتي، نعم وهبتها عضوا من جسدي لأمنحها الحياة... كانت طفلتي مريضة جدا ولم يكن لديها أي أمل في العيش لم أتردد لحظة ولم أفكر كثيرا واليوم نجت هي بعد أن وهبتها الحياة ومرضت أنا لأن صحتي تدهورت ومع ذلك لست خائفة من الموت فما يشغل بالي هو تأمين مستقبل أطفالي الثلاثة عماد وسهام ومحمد عزيز فهؤلاء ليس لديهم أي معيل ولا قلب يعطف عليهم»... بهذه الكلمات إختزلت «رجاء» ل«التونسية» حكايتها حكاية تجسد قيما إنسانية نادرة وقصة عنوانها «العطاء» وفيض من الحنان. تقول محدثتنا: «إسمي «رجاء الصولي» من مواليد 15 -3 -1982 نشأت وسط العاصمة في حي شعبي وبين أسرة فقيرة إنقطعت مبكرا عن الدراسة وخيرت الزواج في سن 16 من «عامل يومي». وتضيف «رجاء» انها كانت تأمل ان تجد حضنا دافئا يعطف عليها ويعوّضها الحنان الذي إفتقدته طيلة طفولتها لتواصل قائلة: أنجبت إبني ويدعى «عماد» 16 سنة ثم سهام 10 سنة ومحمد عزيز 8 سنوات. وتقول «رجاء» انها كانت تعتقد ان إنجاب الأطفال سيملأ حياتها ويعوّضها «الفقر» وحياة البؤس والشقاء التي عاشتها في ظل أسرة فقيرة وانها كانت تعتبر ان إبتسامتهم كافية لتملأ حياتها وتغنيها عن أي مال» وأنها لم تكن تتصور ان القدر يخبّئ لها الكثير من المفاجآت والمحن والأحزان. وتضيف رجاء ان بداية المنعرج في حياتها كان مباشرة بعد ولادة طفلتها «سهام» في مستشفى وسيلة بورقيبة بالعاصمة قائلة: «إكتشف الأطباء أن طفلتي مريضة بمرض الصرع وإنطلقت رحلتي مع العلاج وصرت أتردد بكثرة على مستشفى الأطفال ب«باب سعدون»... عانت طفلتي من مشاكل في التنفس وكانت أحيانا تتنفس بصعوبة فحملتها إلى مستشفى الأطفال بباب سعدون لمزيد فحصها هناك أخبرني الأطباء ان لديها نصف كلية فقط وهي بالكاد تعمل وبالتالي لم يكن لديها أي أمل في النجاة إلا إذا تم زرع «كلية». طفلة مريضة وفقر مدقع يوم سماعها بمرض إبنتها كانت «رجاء» تقطن في «جبل الجلود» ب«غرفة» تفتقر إلى أبسط مقومات السكن اللائق ولكنها لم تكن تتذمر من قلة ذات اليد بل كانت راضية مقتنعة بنصيبها في الحياة لكن مرض ابنتها «سهام» أصابها بصدمة ماذا ستفعل ؟ كيف ستنقذها ؟ أسئلة عديدة خامرتها ولم تنم ليلتها من فرط حزنها وألمها على فلذة كبدها كانت كلما بكت «سهام» يعتصر قلبها حزنا وكمدا ثم أعلمت زوجها بقرارها. أخبرته بنيتها إجراء الفحوصات والتبرع بكليتها... كان أملها ان تتّمكن من منح «الكلية» لطفلتها... شجّعها زوجها وسعد بقرارها وتوّسلها ان تنقذ ابنتهما. وتضيف «رجاء» لم أكن لأتردد لحظة خاصة ان الأمر يتعلق بفلذة كبدي في الغد توجهت إلى مستشفى «الرابطة» و«أجريت الفحوصات اللازمة وكم كانت سعادتي عارمة عندما أخبرني الطبيب ان بإمكاني منح «كليتي» لطفلتي الرضيعة». لكن قبل إجراء العملية ببضعة أيام وبينما كانت في طريقها إلى المستشفى تعرضت رجاء إلى حادث مرور وصدمتها سيارة ولم تفق إلا وهي في المستشفى زاد هذا الحادث من معاناتها وألمها وكأن القدر يأبى إلا ان تكتب مأساتها بأحرف من دم. تبرعت بكليتها لكن... ورغم هول الحادث وأثره العميق على صحتها خاصة أن الإصابة كانت على مستوى رأسها ورغم بقائها أياما تصارع من أجل البقاء لم تتراجع رجاء عن قرارها وتقول: «الموت وحده كان سيثنيني عن قراري كنت مصرة على منح كليتي لإبنتي وإزددت يقينا أن الله وهبني الحياة من جديد لأنقذ طفلتي». بعد ان تماثلت رجاء إلى الشفاء خرجت من المستشفى ومع ذلك أجرت عملية التبرع لفائدة طفلتها وكللت العملية بالنجاح على الأقل بالنسبة للطفلة». مرت الأيام وإعتقدت رجاء ان معاناتها مع المرض وزياراتها المتعددة للأطباء ستقف عند هذا الحد لكن يبدو ان السعادة كانت حلما عابرا ولم تدم فرحتها سوى بضعة أشهر. قصور في الكلية وبداية المعاناة تقول رجاء «صرت أعيش بكلية واحدة لكن شاءت الأقدار ان تصاب كليتي بقصور وهو ما استوجب ضرورة خضوعي إلى تصفية الدم أو ما يعرف في تونس ب«الدياليز» فأنا أزور مستشفى الرابطة يوما بعد يوم لتصفية الدم». وتضيف رجاء: «لقد أنهكني المرض وأعياني الفقر فأنا أضطر للمشي رغم أني لا أستطيع السير لمسافة طويلة ومع ذلك لا املك ثمن سيارة أجرة توصلني إلى المستشفى لذلك أطلب من أولاد الحلال إيصالي». طلاق و3 أطفال بلا سند «رجاء» كانت تعمل منظفة في المنازل وكانت تساهم بما تتقاضاه في مصروف البيت ونفقات الكراء لكن عندما مرضت أصبحت عاجزة عن العمل وأصابها الوهن هجرها زوجها تاركا في كفالتها 3 أطفال بلا مورد للرزق تقول انه لا يزورهم ولا يطمئن على أحوالهم لا يسأل عنهم ولا يعرف إحتياجاتهم لا يمسح دموعهم ولم يساندها البتة لا في مرضها ولا في رعاية الأطفال فحتى في الأعياد الرسمية كعيد الإضحى يكتفون برائحة الشواء المنبعثة من المنازل المجاورة هناك في غرفة خالية من الأثاث في بيت آيل للسقوط تحاول «رجاء» الصمود والتغلب على مرضها وألمها والعمل رغم ظروفها الصحية القاسية. قساوة الحياة أجبرتها على «التسوّل» ومدّ يدها إلى أهل البرّ والإحسان. تقول: «ليس لدي أي عمل قار وعليّ إطعام أولادي أكره «التسوّل» ومع ذلك أجد نفسي مجبرة على جمع بعض المال أتألم لأني عاجزة عن توفير ما قد يحلم به أطفالي كعلبة شكلاطة أو قطعة مرطبات أو لباس يقيهم برد الشتاء». الطفلان عماد ومحمد عزيز يزاولان دراستهما أما سهام فبسبب إعاقتها تتركها رجاء في البيت وأحيانا عند جارتها تقول: «إبنتي لا تزال تستعمل «الحفّاظات» ويلزمها عناية خاصة ومع ذلك أجد نفسي عاجزة عن تلبية أبسط الضرورات». غياب السند سألناها عن عائلتها فصمتت برهة ثم قالت: «لا أحد يسأل عنّي ونادرا ما أزور والدتي أو إخوتي وحتى عندما أطلب منهم بعض المال يرفضون ويطلبون مني مساعدتهم». تقول: «تخيلوا ان شقيقتي طلبت مني مدّها ب500 دينار لتمنحني «كلية» فبعد التحاليل تبين ان بإمكانها التبرع ب«كلية» ولكنها إشترطت المال لإنقاذي فمن أين سأتدبر لها هذا المبلغ ؟فأنا بالكاد أعثر على ثمن الكراء ومصاريف قوتي وقوت أولادي». كانت الدموع المنهمرة على خدها تحول دون مواصلة كلامها لذلك قطعت رجاء حديثها بتنهيدة عميقة قائلة: «حياتي لا قيمة لها والموت حق ولكنّي أريد ان أطمئن على أولادي وحلمي بيت يأويهم ولا يطردهم منه أحد».