التونسية (تونس) عانى الكثير من المثقفين قبل الثورة من ممنوعات الخطوط الحمراء والمصادرة ...وحتى بعدها تعرض بعضهم إلى سهام موجات التكفير والتعنيف...و بين الأمس واليوم تبقى الثقافة في حاجة إلى هبوب رياح الثورة عليها على مستوى الفضاءات والميزانيات والمضامين...فهل أنصف مشروع الدستور في نسخته الأخيرة الصادرة في شهر أفريل الماضي المثقف؟ وهل منح هذا المشروع الحصانة الدستورية للمؤسسة الثقافية للذوذ عن انتاجها وأبناء دارها؟ وهل قطعت هذه المسودة الدستورية دابر الوصاية على الأعمال الفنية وأزاحت المكبلات المانعة للعطاء الفني البناء والهادف؟ وهل وهل .... أسئلة طرحتها «التونسية» على عدد من الوجوه الثقافية من أرباب الشعر والفن التشكيلي والمسرح والسينما...للاطلاع على مدى رضا المثقف عن دستوره «الثوري». بالإضافة إلى الاستعانة بوجهة نظر القانون الدستوري في قراءته لحقوق المثقف في مشروع الدستور. نصيب الثقافة في مشروع دستور تونس ما بعد الثورة تمثل في حوالي ثلاثة فصول من جملة 139 فصلا .وتتلخص«ترويكا» هذه الفصول في ما يلي : الفصل40 : حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يمكن الحد من حرية التعبير والإعلام والنشر إلا بموجب قانون يحمي حقوق الغير وسمعتهم وأمنهم وصحتهم. لا يمكن ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات . الفصل 41: الحق في الثقافة مضمون . حرية الإبداع مضمونة وتشجع الدولة الإبداع الثقافي وتدعم الثقافة الوطنية. تحمي الدولة الموروث الثقافي وتضمن حق الأجيال القادمة فيه. الفصل 43: الحق في الملكية ومنها الملكية الفكرية مضمون طبق القانون. فماذا قال أهل الثقافة عن هذه الفصول وكيف علقوا عن مضامينها؟ هذيان دستوري الشاعر منصف المزغني لم يخف امتعاضه من الفصول المخصصة للثقافة المضحكة المبكية في آن واحد حسب تصريحه حيث قال:«كان لا بد أن يهتم الدستور بالثقافة على الأقل لتبرير وجود وزارة الثقافة والمحافظة على التراث !وإن الحد من حرية التعبير والاعلام بموجب قانون يحمي حقوق الغير وسمعتهم وأمنهم وصحتهم ,كلام غير دقيق وثقيل ومفتوح على التأويل الذي لا ساحل له.فما معنى التعبير الذي يضر بحقوق الغير؟ وما دخل السمعة والأمن والصحة ونحن نشرع لحرية الإبداع في دولة الثورة التي قامت لرفض الوصاية الحزبية؟ وشكرا جزيلا لكتاب الدستور لأنهم يضمنون حرية الإبداع. وما كانوا ليكتبوا مثل هذا الكلام لو كانوا يعلمون أن الإبداع رديف للحرية, فالابداع حرية والحرية إبداع . كذلك فإن عبارة «تشجع الدولة الإبداع الثقافي» هي عبارة تبعث على التندر والابتسام إذا كانت متضمنة في نص الدستور فما معنى تشجع ؟ وما معنى الإبداع الثقافي ؟هل يريد كتاب الدستور أن يميزوا بين الإبداع الفلاحي مثلا والإبداع الثقافي؟ومتى كانت الدولة تفهم ما هو الإبداع والفن ونحن نرى وزارة الثقافة تعج بالموظفين الصغار المكلفين بتأدية أدوار إدارية لا غير ابتداء بوزير الثقافة نفسه الذي يلتف حوله ناس يفقهون في المناورات الإدارية أكثر من المناورات الإبداعية». وشدد المزغني على انه كان لابد من التنصيص الدقيق والواضح على الملكية الفكرية قائلا :«أظن أن كتّاب الدستور لا يعرفون خطورة ما يسطّرون . فتونس الآن تعد من أهم البلدان التي يهدر فيها حق التأليف ونظرة بسيطة على حقوق مبدعيها وأهل الفن فيها تجعل مثل هذا القانون نوعا من الهذيان الدستوري وكأن من كتبه لا يهمه إلا أن يكتب القانون بطرق قريبة من الكلام الرومانسي الذي لا يشبه الواقع الثقافي المرير الذي يعاني منه كل مصاب بالثقافة في تونس الآن ». نسف للحرية يعد الفن التشكيلي من أكثر الفنون عرضة للمنع والاعتداء من قبل بعض المحسوبين على التيار السلفي. ولعل حادثة قصر العبدلية بالمرسى خير دليل على ذلك . لكن الفنان التشكيلي والناقد فاتح بن عامر يرى أن:« صيغة الفصول الثقافية في مشروع الدستور تحمل التفافا على مبدإ الحريّة في الرأي والفكر والتّعبير والإعلام بالمواربة أي دون أن تقوله، بل بالتأكيد على نفي ضديده» .وأضاف :«وعليه نرى أنّ هذا القانون في حاجة إلى التعديل اللّغوي من جهة والمضموني من جهة ثانية، لأنه يقول بحريّة تجعل من القوانين التّرتيبيّة تنسف مبدأ الحريّة بسهولة بالاتّكاء على الموجبات من التّعلات الّتي يبدو أنّها سهلة المنال تحت أيّ ظرف آخر غير توفير الحريّة. ويبدو أنّ مشروع الحقوق الثقافية في الدستور الجديد صيغ بتسرّع ودون تمعّن ممّا أورد فيه إغفالا وتلكّؤا في مسألة الحريّة في الرأي والفكر والتّعبير والإعلام والنّشر، بما يثير التساؤل عن قصديّة وضع القانون بهذه الصياغة بالنّسبة للقانون 40». أما القانون 41 فقد علق عليه بن عامر بالقول :« يبدو أنّه جاء ليخفّف من عبء القانون السّابق له لأنّه لم يكن على وضوح. وحيث أنّ حريّة الرأي والفكر والنّشر والإعلام والإبداع مرتبطة بالعقيدة الّتي ليست بالضرورة دينيّة، يمكن تأويل هذين القانونين خارج أو في اتّجاه عكس ما وجدا أو صيغا من أجله. ولنأخذ مثالا في الفنون المرئيّة والبصريّة كالمسرح والسينما والتّصوير... هذه فنون تتطلّب نوعا من الفهم الآخر، فهم غير مرتبط بتصوّر ضيّق لمفهوم الحرّية الإبداعيّة أو بمفهوم الثّقافة على أساس أنّها ميراث، سيما أنّنا نرتجي من الثّورة أن تفعّل وتقوّي من منسوب الحرّيات في كنف حداثة كنّا ارتجيناها ولم تتحقّق وما علينا إلاّ السّير إلى تحقيقها لننافس الأمم الأخرى في فرض وجودنا كبلد شهد أولى ثورات القرن الحادي والعشرين». لا جدوى... ومرارة يبدو أن قراءة الفن التشكيلي لمشروع الدستور وتحديدا للفصول المتحدثة عن حرية الإبداع والتعبير لا تختلف كثيرا عن قراءة الفن الرابع ,حيث أفاد المسرحي حمادي المزي بأن ما حصل للمسرحيين يوم عيدهم بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمسرح السنة الفارطة من اعتداء من قبل بعض السلفيين الذين حولوا يوم الاحتفال إلى يوم «تأبين» المسرح التونسي, حثه و مجموعة من المثقفين على المضي إلى المجلس الوطني التأسيسي واللقاء برئيسه مصطفى بن جعفر لإبلاغه بضرورة دسترة حقوق المثقف المادية والمعنوية وإبعاده عن التجاذبات السياسية. وأكد المزي أن هذا اللقاء حمل مقترحات مدروسة تمخضت عن جل الندوات المنعقدة حول واقع الفن الرابع وآفاقه على وجه الخصوص.وأضاف أن بن جعفر أصغى إلى هذه المقترحات ووعد بتضمينها في الدستور الذي كان وقتها بصدد الصياغة ولكن شيئا منها لم يرد في مشروع الدستور الأخير . وعبر المزي عن أسفه الأليم لما لحق الثقافة عموما من تهميش والحال أنها تستحق أن تكون في المقدمة كما حدث في ثورات العالم وكذلك لما لحق المثقف من إقصاء من المنابر الإعلامية وتغييب عن صفحات الصحف السّيارة اللاهثة وراء الساسة على حد وصفه. واعتبر رجل المسرح حمادي المزي أن فصول مشروع الدستور تبطن رغبة في طمس معالم الثقافة لذلك فهي بلا جدوى وتبعث على الشعور بالمرارة .وقال في تحد:«لكن المثقف أبقى ورغم الخيبة الكبرى فإن نفحات التفاؤل قادرة أن تقلب الآية». توطئة مخيفة من جانبها اعتبرت الممثلة ليلى الشابي أن نسخة مشروع الدستور جاءت مخيبة للآمال ومحبطة للعزائم وقالت ل «التونسية»:«تضمن مشروع الدستور توطئة أقل ما يقال عنها إنها مخيفة وحمل بين سطور فصوله ألغاما من الممنوعات التي تقيد الحريات تحت عنوان «وفق ما يضبطه القانون»,«تضمن الدولة»,«وفق خصوصيات المجتمع»...إضافة الى العبارات الهلامية والفضفاضة والعامة... أما الفصول الخاصة بالثقافة فتخفي تقييدا لحرية الفن والإبداع ,فما معنى أن يرد مثلا في الفصل 41 أن «حرية الإبداع مضمونة وتشجع الدولة الإبداع الثقافي وتدعم الثقافة الوطنية»؟وهل يعني أنه هذا على الثقافة أن تنغلق على ذاتها وتدير ظهرها للثقافات الأخرى لأن الدولة لا تدعم سوى الثقافة الوطنية؟ ثم أليس الفن لغة عالمية عابرة للحدود والقارات وقابلة للتبادل الحضاري ؟ وهل يريدون وأد تونس الانفتاح ,تونس التسامح والخير؟» فصول مشوهة كيف يرى المثقف الموجود داخل قبة الفصول التي تعنيه في مشروع الدستور وقد ساهم في صياغتها ووضعها؟ الإجابة عن هذا السؤال كانت على لسان السينمائية وعضو المجلس التأسيسي سلمى بكار التي صرحت بأن لجنة التنسيق والصياغة «شوهت» الفصول «الجميلة» التي أعددتها لجنة الحقوق والحريات حول الثقافة وحرية الإبداع وقالت إنه تم حذف عبارة «الإبداع» من الفصل40 الذي كان في صيغته القديمة كما يلي : «حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر والإبداع مضمونة». وأردفت قائلة :« لقد وضعنا ضمن لجنة الحقوق والحريات فصلا رائعا حاز على إجماع الجميع يكرس مبدأ اللامركزية الثقافية وحق الجهات في التنمية الفكرية,وهو كما يلي :«تضمن الدولة الحق في الثقافة لكل مواطن» فإذا به يتعرض للتحوير ليصبح كالآتي : «الحق في الثقافة مضمون ». ولم تخف سلمى بكار أسفها الشديد من الصيغة الجديدة للفصل 41 الذي ورد فيه :« حرية الإبداع مضمونة وتشجع الدولة الإبداع الثقافي وتدعم الثقافة الوطنية.»في حين أن الفصل الأصلي كان أكثر إنفتاحا وواقعية وعقلانية حيث جاء فيه:«تشجع الدولة الإبداع الثقافي وتدعم الثقافة الوطنية في تأصلها وتنوعها وتجددها بما يكرس قيم التسامح ونبذ العنف والانفتاح على مختلف الثقافات والحوار بين مختلف الحضارات». ولفتت بكار النظر إلى خطورة تهميش حماية الملكية الأدبية والفكرية وحقوق التأليف مستنكرة تغيير الفصل الذي كان ينص على أن «الحرية الأدبية والفكرية مضمونة» ليصبح :«الحق في الملكية ومنها الملكية الفكرية مضمون طبق القانون». وذهبت إلى أن الزج بالملكية الفكرية في خانة الملكية العقارية وغيرها ينم عن جهل وتهميش لخصوصيات الملكية الثقافية. قراءة قانونية في الحقوق الثقافية في قراءة قانونية لحقوق المثقف في مشروع الدستور التونسي لشهر أفريل 2013,أفاد أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد أنه» بالعودة إلى التجارب المقارنة وخاصة في الدول الديمقراطية نجد أن الدساتير لا تضمن مثل هذه الحقوق وتقتصر على ضمان المبادئ الكبرى التي يقوم عليها التنظيم السياسي للسلطة وبالتالي فإن الحقوق الثقافية وغيرها تضمن بصفة فعلية إذا كانت السلطة معبرة تعبيرا حقيقيا عن الإرادة الشعبية دون أن ينصب أي كان نفسه وصيا على المجتمع» .وأضاف أن التجربة الدستورية في البلاد العربية بوجه عام تبرز أن الدساتير مهما كانت درجة احكامها حينما تتحول إلى أداة حكم فإن الحقوق التي تضمنها لا يمكن أن تجد طريقها إلى التطبيق إلا في الإطار الذي تحدده السلطة والذي يتفق مع اختياراتها ويضفي عليها مشروعية وهمية