تحت عنوان «متى تصبح الثورة ثورة بحق؟» كتب المفكر ابو يعرب المرزوقي على موقعه بالفايسبوك مقالا جاء فيه: «لا يحق لأحد أن يتهم غيره في وطنيته سعيا لخير بلاده ولا في صدقه تطابقا بين باطن نواياه وظاهر سلوكه. ويبقى مع ذلك من حق أي إنسان أن يتساءل عن علل الحماسة الزائدة عن المعتاد في مواقف بعض النخب السياسية والتربوية والاقتصادية والثقافية بمناسبة وبغير مناسبة عندما يتعلق الأمر بما يقدمونه دفاعا عن الحريات ومصلحة الوطن كلما تعلق الأمر بالكلام على من يريد أن يضع مشكل المشاكل أعني مشكل الشروط التي تحقق التحرر من التبعية في هذه المجالات جميعا. فهذه النخب تدعي تمثيلها لكنها ترفض البحث في شروط قدرتها على تحقيق الكرامة والحرية للمواطن والوطن. والمعلوم أن الحرية والكرامة من دون الشروط القادرة على تحقيقهما ليستا إلا معنيين شكليين لا مدلول فعلي لهما في حياة الوطن والمواطن عدا المزيد من التبعية ومن ثم فقدان مقومات الوجود الحر. فما الذي يجعل هذه الحماسة القاصرة تذهب إلى حد المناقضة الصريحة للحس السليم والعقل القويم بحيث: يحالف الشيوعي الليبرالي (سعي ما يسمى بالجبهة للحلف مع «نداء تونس»)؟ ويحالف العلماني الشيعي (حلف ما يسمى بالمفكرين لحزب الله وإيران)؟ ويحالف الديمقراطي الفاشي (حلف الليبراليين لبشار الأسد)؟ ويحالف جل متسكعي الساحة الثقافية الحلفين الأولين (الكتابات السخيفة في صحف أولئك من قبل عضاريت التقارير السابقين) فينشأ حلف مدنس اسمه الثورة المضادة في تونس ومصر خاصة وفي كل أقطار الربيع العربي عامة بقيادة رموز النظامين القديمين اللذين قامت الثورة بسبب ما آل إليه وضع البلاد والعباد بفعل مافياتهما التي نهبت ثروات البلاد وهربتها إلى بنوك سويسرا ودبي أو استثمرتها في عقارات ومشاريع في الغرب إعدادا لملاجئهم إذا اضطروا للهرب؟ وما يحق للمرء أن يسأل عنه ينبغي أن يكون سؤالا لا يتهم النوايا بل يصف الوقائع ودون مزايدة على وطنية أحد أو إخلاصه لربط الأمر بالمقومات الموضوعية لبناء الأمم الحرة التي لا يمكنها أن تكون حرة من دون تحقيق شروط الإرادة الحرة وأولها شروط التحرر من التبعية. وهذا النوع من الأسئلة لا يكاد يتناهى لكني سأكتفي بالأسئلة التالية حول هذه الأحلاف التي حصلت فعلا بصريح إعلان أصحابها عنها وهم ليسوا أيا كان بل هم زعماء المجموعات المعنية. فهي ألغاز الربيع العربي بل هي في نفس الوقت علامات تعثره وعللها: السؤال الأول: كيف يتحقق الجمع بين الديمقراطية الشعبية والديمقراطية البورجوازية في الحلف الأول؟ هل يمكن أن يحصل ذلك ويكون قادة الفريقين صادقين ويعملان حقا لصالح تونس أو مصر؟ كيف تحقق «الجبهة الشعبية» معجزة البقاء شعبية تتكلم باسم الزوالي كما يزعم زعيمها رغم حلفها من مصاصي دم الشعب؟ السؤال الثاني: كيف يتحقق الجمع بين الدولة الكهنوتية للشيعة وعلمانية النخب المؤيدة لإيران وحزب الله خاصة وقد كان البعض منها قبل الثورة يتهم حزب الله بالفاشية فصار اليوم يتغزل بانتصاراته المزعومة في «القصير»؟ كيف يحقق حداثيو تونس ومصر معجزة العلمانية المتحالفة مع الدولة اللاهوتية الوحيدة في العالم ومع أذرع تشييع فقراء العالم الإسلامي حصرا فيهم بخرافات لم تكن مقبولة حتى عند أكثر شعوب الأرض بدائية في فجر التاريخ؟ السؤال الثالث: كيف يتحقق الجمع بين الديمقراطي و الفاشي من بقايا الأنظمة العسكرية العربية في المشرق (سوريا) و في المغرب (الجزائر)؟ كيف يستطيع ديمقراطيو تونس ومصر تحقيق معجزة الديمقراطية المتحالفة مع أكثر الأنظمة فاشية واستبدادا وفسادا في العالم ثم يزعمون أنهم ليسوا ضد أهداف الثورة بل هم يسعون إلى تحقيق شروط الديمقراطية الحقة؟ السؤال الرابع: كيف صار عضاريت المقاهي و البارات و كتاب التقارير للداخلية في زمن بن علي وكذلك خدم مافيته ممن صاروا يتصورون أنفسهم من علية القوم بما أفسدوا التعليم عامة و الجامعة خاصة فنصبوا أنفسهم مفكرين بل ومشرعين رغم علم الجميع بأن أغلبهم لم يكن قبل الثورة إلا عبد مافيا و بعدها إلا مجرد رقم لسد الفراغ في ما كان يسمى بهيئة تحقيق أهداف الثورة وأنهم بصنفيهم لا يزالون وسيظلون دائما كدائين في أدنى السلم بالنسبة إلى الأولين وفي أقرب درجاته من المافيا بالنسبة إلى الأخيرين. والسؤال الأخير: ما طبيعة الحلف الذي يستند إلى هذه المعجزات العجيبة و ما شروط نجاحه؟ فأما طبيعة الحلف الدنس فهي ما يسمى بالثورة المضادة التي تجعل خيوط المافيا الاقتصادية و السياسية و التربوية والثقافية و منها الإعلامية تحاك من جديد للقضاء على أي أمل في نجاح الربيع العربي خاصة وبعض عملاء الغرب من أغنياء العرب باتوا يمولونهم ويمولون إعلام الاشاعات النسقية كالحال في باطل بروباغندا الاستبداد والفساد. وأما شروط نجاح الثورة المضادة فهي ليست ذاتية لها و هي لا تدين بما يمكن أن تحققه من نجاح لقيمها أو لفاعلية المشرفين عليها بل هي عائدة إلى شرط واحد: هو عدم استعمال الثوار منطق الثورة منذ البداية وكل تأخر في استعماله يقربه من الامتناع لأن الثورة المضادة تسترد أنفاسها والثورة تبرد عزائمها بطول الزمن. وإذن فالثوار هم المسؤولون عن كل إمكانية تقدم للثورة المضادة وذلك بسبب سوء التقدير أو الجبن عند قياداتها أو لميلهم هم بدورهم للحكم بمنطق لا يمكن إلا أن يؤول إلى الاستبداد والفساد لأن أول شروطه هو الاستجابة لشرط الشروط في ظرف التبعية: شرط استمرار التغذية الاصطناعية لاقتصادات البلاد التابعة و أبرز علاماتها بناء اقتصاد الوطن على مرضين هما علة التبعية ونتيجتها الحتميتين: القطاعات الهشة التي توطد التبعية مثل السياحة المتدنية والمبتذلة التي لا يطلبها السائح طلب ما لا يمكن الاستغناء عنه بسبب كونها خاصة بمقومات المجتمع الثقافية وتراثه الخالد. تعويد الشعوب على العيش بما لا تملك ولا تنتج وعدم مصارحتها بأن الحرية و الكرامة مشروطتان بالتضحية الحقيقية التي جعلت ألمانيا واليابان تصبحان عملاقين بعد تهديم كامل لبلديهما. فإذا قبلت ثورات الربيع العربي بالوضع السابق للثورة ولم تقدم على تغيير هذين الأمرين الثقافيين والاقتصاديين فمعنى ذلك أنها رضيت بالتبعية بنية جوهرية لقيام الدول المتسولة بالطبع. وعندئذ تصبح الثورة عديمة المعنى ويكون فشلها أمرا لازما. وذلك هو شرط نجاح الثورة المضادة. وما لم يفهم الثوار شعوبهم أن شروط الكرامة والحرية هي عينها الشروط التي جعلت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية تتحد لأن نخبها أدركت أن أوروبا العتيقة ستخرج من التاريخ إذا أبقت على التناحر بين شعوبها ولم تتحد بعد أن علمت أنه لم يبق للصغار أي حظ من الوجود المستقل (بسبب تكون العملاقين السوفياتي والأمريكي اللذين تقاسما احتلال أوروبا العتيقة) فإن الثورة المضادة ستنجح في إعادة الوضع السابق. ولما كان من يسمون أنفسهم ثوارا اليوم لا يمكنهم أن يحكموا من دون شروط الحكم المقبول ومن أهمها الاستجابة للحاجات الأولية لشعبهم فإنهم سيقبلون حتما مثل من تقدم عليهم التبعية الاقتصادية والثقافية التي تتم بأيدي المنصبين على السلط السياسة والتربوية فيكونوا مجرد دمى تحركهم دولة عميقة أصولها في الخارج وأذيالهما في الداخل وهي بذكائها تبقي لهم ثرثرة الخطاب الرمزي المخادع باسم قيم الثورة لكنهم لا يحكمون حقا إلا بأوامر تلك المافيات الخفية التي تمثل التبعية بل وتمثل السياسة النسقية لتوطيدها. وإني لأرى أن ذلك قد بدأ فعلا في الكثير من المبادرات و السلوكات.