يقترن حضور الحلويات لدى المخيال الشعبي التونسي بالمسرّات والمناسبات السعيدة فهي رمز للبهجة وشهادة عن الكرم وإشارة للاحتفال ...و لعيد الفطر أيضا حلوياته ذات المذاق الخاص والنكهة المميّزة والأجواء الحميمية ,ولكن يبدو أن النزيف المتواصل لارتفاع الأسعار ألقى بتداعياته على طبق حلويات العيد ونغصّ على التونسيين متعة التلذّذ بحلاوتها. وهذا ما وقفت عليه «التونسية» في جولة على محلاّت الحلويات بمختلف تصنيفاتها وفي حديث مع زبائنها بمختلف شرائحهم ... طابور طويل عريض من الحرفاء اصطف في انتظار دوره للتزود بحاجته بما لذّ وطاب من حلويات العيد. فقد كان الإقبال مكثّفا على إحدى محلاّت بيع الحلويات من ذوي الماركات الشهيرة حتى إنّ القائمين عليه اضطروا إلى تركيز آلة إلكترونية لاقتطاع التذاكر قصد تنظيم صفوف الزبائن مثلما هو معمول به في بعض الإدارات العمومية ... وفي هذا المحلّ بالذات لم تكن هناك شكوى من قلّة الإقبال ولا من شح المدخول, حيث قال «محمد» (مسؤول عن المبيعات) إنّ الطلب يفوق العرض بكثير رغم أن المحلّ شرع في تأمين طلبات حرفائه قبل حلول شهر رمضان.و أضاف قائلا بعد أن اضطر إلى قطع حديثه لأكثر من مرة استجابة لاستفسارات الحرفاء في حين كانت يداه منشغلتان باستلام المال مقابل تسليم البضاعة. من الطبيعي أن ترتفع أسعار الحلويات نظرا لارتفاع المواد الأولية ولكننا حاولنا أن نضغط على التسعيرة لذلك أضفنا حوالي دينارين فقط في ثمن الكيلوغرام الواحد ,و زبائننا لم تقلقهم هذه الزيادة طالما أن حلوياتنا في مستوى الجودة والنكهة واللّذة التي يطلبون . هذا المحلّ الفاخر شأنه شأن بقية المحلاّت الشهيرة, الذائع صيتها في صنع الحلويات ... توفرت به الواجهات الأنيقة والديكورات البديعة والمكيّفات ...ولكن الأسعار كانت في سماوات بعيدة لا تستطيع أن تقوى عليها سوى الفئات المترفة الثراء وهذا ما نمّت عنه ملامح حرفاء هذه المحلات «الأرستقراطية». فللحلويات أيضا تصنيفات اجتماعية تتدرّج حسب سلم مدخول طالبيها,فكيف هو حال الطبقة المتوسطة؟ بهرجة زائدة لكن البضاعة واحدة «على كل لون يا كريمة» اصطفت الحلويات المختلفة الأحجام والمتنوعة الأشكال والباهية الألوان في الواجهات البلورية في إغراء فاتن للزبائن الذين اكتفى أغلبهم بإلقاء نظرة مهزوم بعد أن ألقوا المنديل أمام غلاء الأسعار,في حين استسلم قلّة لشهوة النفس وابتاعوا ما كتب اللهو لكن بحرص وتقتير شديدين . المسؤول عن هذا المحلّ «الشعبي» تحدث بمرارة عن حجم الخسارة التي لحقت تجارته هذا العام بسبب غول الغلاء المتوحش وأوضاع البلاد المربكة .وقال «هشام بن عمران» إن محلّه يقدم أسعارا جدّ مناسبة ومراعية لجيب التونسي حيث لا يتجاوز عنده سعر الكيلو غرام الواحد من «الحلو العربي على سبيل المثال 24 دينارا ... وأكدّ أن حلوياته لا تختلف في شيء عن حلويات المحلات الفاخرة فالمواد الأولية نفسها والمذاق ذاته ولكن فخامة المظهر الخارجي والانتصاب في الأحياء الراقية وبهرجة أشكال التعليب والتغليف كلها عوامل تصنع الفرق في الأسعار. أما تقييمه لإقبال التونسي على شراء الحلويات ,فقد وصفه «بن عمران» بالضعيف ودون المطلوب مرجعا ذلك إلى تدهور المقدرة الشرائية وانهيار نفسية العباد انشغالا على حال البلاد . وفي زيارة لنا (تونسية)لأحد المصانع الصغرى للحلويات ,التقينا برئيس العمال «محمد لحبيب بلغارق» الذي صرخ قائلا: «إنها كارثة ! لقد تراجع معدل إنتاجنا بنسبة 60 بالمائة واضطررت إلى تسريح نصف العاملات في حين كنت أستعين بيد عاملة إضافية في المواسم الفارطة ...وبصراحة فقد بالغ الإعلام في تصوير واقع البلاد إلى درجة سدت شهيّة الناس عن الحلويات.» «بربي...وين ماشين»؟! بشارع «شارل ديغول»بالعاصمة نصبت بعض محلات الحلويات بضاعتها في واجهات كانت عرضة لأشعة الشمس ولغبار الطريق ولمسات الفضوليين . هذا الخروج على القانون فسّره صاحب أحد المحلات «زهير العمامي»بالقول : «لو أزالوا الانتصاب الفوضوي وخلصونا من مزاحمته لنا في عقر دارنا ,لامتثلنا بدورنا للقانون , فلو لم نخرج للرصيف لحجب دكاننا الباعة العشوائيون» أما في ما يتعلق بالأسعار التي بدت منخفضة مقارنة بنظيرتها في محلات الحلويات الأخرى فقد علّق «العمامي»صارخا في تشنج : «كل شي غلا ...النار شعلت في الدنيا الكل بعد الثورة .الزيت غلا ,الزبدة غلات,اللوز غلا..قريب نبيع براس المال وكان لزم بالخسارة ...بربي وين ماشين؟!» « شويا شويا ...للذواقة» غادرت احدى المحلات الشهيرة في بيع الحلويات حاملة كيسا بدا خفيف الوزن وقالت السيدة أسماء عندما استوقفناها : «ماذا عساه أن يوفر الزوالي ...و قد قصمت ظهره ضربات متتالية من مصاريف المناسبات والأفراح ومستلزمات شهر رمضان وملابس العيد ومتطلبات العودة المدرسية...؟ ولهذا فإنني أبتاع القليل من الحلويات وفاء للعادات والأعراف وحتى أتمّكن من أداء واجب الضيافة إزاء الأحباب والأصحاب في يوم العيد ...»و ردا عن سؤالنا المتعلق بتوجهها إلى محل معروف بأسعاره المرتفعة رغم ما شكته من كثرة مصاريفها ,أجابت : «أفضّل الدفع أكثر لبضاعة جيدة بدل شراء بضاعة مقبولة السعر لكنها متوسطة الجودة ... ثم إن هذا المحل مشهور ب «الحلو الصفاقسي» اللذيذ ,لذلك اشتريت شويا شويا للذواقة». و عموما كانت المحلات ذات الأسماء الشهيرة في عالم الحلويات تعج بالزبائن الذين اختلفت أوزان طلباتهم من الحلويات كل حسب مدخوله ولكن أغلب الذين تحدثنا إليهم وإن عبروا عن انزعاجهم من ارتفاع الأسعار لم يكونوا على استعداد للتخلي عن «نجومية» حلوياتهم في عيون الأهل والمعارف ... دراهم معدودة وشهيّة مسدودة على شبه مقعد من الإسفلت ,جلستا تلتقطان أنفاسا فعل بها الصيام فعله وعبثت بها كما شاءت سياط أشعة الشمس الملتهبة...و بعد برهة من الجلوس للاستراحة غرقتا في نقاش حاد والأوراق المالية القليلة المتبقية بالمحفظة .هذا ما أوحت به وضعية إحدى السيدات التي كانت برفقتها ابنتها الشابة في رحلة تسوّق لابتياع حاجيات العيد .و قد تحدثت الفتاة في حيرة كبرى عن تفرق مدخول العائلة القليل بين اقتناء بعض الملابس لإخوتها الصغار والمصاريف اليومية مشيرة إلى مقتنيات قليلة في كيس كان بين يديها بعد جولة في الأسواق انطلقت منذ ساعات الصباح الباكر .أما عن موقع حلويات العيد ضمن قائمة مشترياتها, فقد اكتفت بالقول : «ان شاء الله نلقى فلوس باش نشري الخبز ...موش الحلو» ! كانت ترمق واجهات محلاّت الحلويات بعيون بدت مرهقة وزاهدة في كل شيء من حولها وبصوت منهك قالت: «خرجت من البيت عساني أشتم رائحة الفرحة في الشوارع والأسواق والعيد على الأبواب بعد حالة الذعر والهلع التي أصبحت خبزنا اليومي منذ اغتيال البراهمي وذبح جنودنا ...فأنباء الاغتيالات والتفجيرات أتعبت نفسيتي وسدّت شهيتي عن الحلويات ...» صنعة الجدّات... مهدّدة بالاندثار كان يتوقف برهة من الزمن أمام محلات الحلويات ملقيا نظرة على لافتات الأسعار, وبين وقفة ونظرة كانت ترتسم على شفاهه ابتسامة كشف عن معناها صاحبها «أحمد النصراوي» قائلا بنبرة نمّت عن الفخر: «لم آت لأشتري بل لمجرّد التعرف على ثمن الحلويات ,فزوجتي ماهرة في صنع جميع أصناف «الحلو» حتى أنها حوّلت المنزل إلى ورشة لصنع الحلويات وأصبح الحرفاء يتهاطلون عليها من كل الأحياء المجاورة نظرا لجودة حلو الدار ولذّته ...» و إن افتخر هذا الرجل بأنامل زوجته «الصنّافة» التي تجيد صنع الحلويات ,فله الحق في ذلك أمام اندثار عادات العيد أيام زمان حيث كان يندر أن تتخلّف المرأة التونسية عن «حلان الحلو» في منزلها .و لكن يبدو أن عصر السرعة والدخول في صراع ضد ساعة الوقت المهرولة دفع المرأة العصرية الى التخلّي عن صنعة الجدات واستسهال الجاهز والمريح . و لكن هذا السلوك برّرته الجدة فاطمة الزهراء بكسل نساء هذا الزمان وركونهن إلى الأسهل وافتقارهن لل «حذقة» متحدثة في اعتزاز وحنين عن ربات البيوت من جيلها قائلة :»كان من العيب أن تشتري المرأة الحرة حلويات عيدها من الخارج وكنا نتوارث صناعة الحلو عن جداتنا وأمهاتنا ...أما اليوم فصنعة الجدّات مهددة بالاندثار « ! و رغم تقدّم سن هذه المرأة فإن عامل الكبر لم يقف عائقا في وجه الوفاء لطقوسها في صنع حلويات العيد,حيث أضافت: «لم يعد سنّي يسمح لي بصنع الحلو فأصبح أولادي يأتونني بحلويات السوق لكني لا أتذوقها وحتى هم يتخلّون عنها ليتلذذوا ب «الصمصة» الشهية التي أقدّمها لهم يوم العيد ,و ها أنا ذاهبة لتوّي لشراء كمية من اللوز لإعداد «الصمصة» لأبنائي وأحفادي. ولكن قبل أن تغادرنا الحاجة «فاطمة» لشراء اللوز دعت بوقار الشيخوخة المهيب قائلة: «ربي يحفظ تونس ,إن شاء الله ترجع كيما قبل ويزّينا من الدم, إنشاء الله ترجع جنّة على وجه الأرض» ! فلم نملك أمام هذا الدعاء الصادق والمؤثر سوى أن نقول: آمين!