بقلم: مصطفى قوبعة سعادة السفير، تحية طيّبة، نحن في تونس نبكي شهداءنا، نرثيهم، وندفنهم ولكن نحن لا ندفن رؤوسنا في الرمل، وبالمناسبة أكتب إلى سعادتكم لا للاستقواء بكم كما تعود أن يفعل البعض، أو لاستقراء انطباعاتكم عمّا يجري هنا وهناك كما يسعى البعض الآخر أو لاستلهام توصيات أو تعليمات كما يهوى آخرون، بل لأوصل إلى سعادتكم بعض الخواطر على أن تتقبلونها بصدر رحب. سعادة السفير، من عاداتكم ومن تقاليدكم الالتقاء بشخصيات رسمية أو سياسية من السلطة أو من المعارضة أو ممن تصفونهم بقيادات المجتمع المدني في تونس كما هو الشأن بالنسبة للكثير من رؤساء البعثات الديبلوماسية المعتمدة في تونس، ولكن طفح الكيل. سعادة السفير، ماذا لو أوصدتم أبواب سفارتكم أمام جميع السياسيين ونشطاء المجتمع المدني من الموالاة ومن المعارضة؟ ماذا لو تفرّغتم للاستمتاع بزرقة هذه البلاد، بزرقة بحرها وسمائها؟ ماذا لو خصصتم وقتكم الثمين لاكتشاف صحارينا وواحاتها الجميلة، ففي هذه البلاد الكثير من سحر الطبيعة ما يختلف عن سحر طبيعة أماكن أخرى من العالم؟ ماذا لو اكتفيتم بتلذذ أفضل الأطباق التونسية من اللحوم الحمراء ومن الأسماك؟ أليس كل هذا أفضل لكم شخصيا وأفضل لنا كشعب، فأنا على يقين أن الأمر كذلك وأنا على يقين أنكم في قرارة نفسكم تودون ذلك، فالسفراء عادة يحبّون الحياة وملذات الحياة، ولكن... سعادة السفير، إثر سقوط جدار برلين ركزت الإدارة الأمريكية كل جهدها واهتمامها على المنطقة العربية في سياق إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد ذي البعد الواحد تكون فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية «شرطي العالم». حينها بدأ «الذكاء» الأمريكي ينتج استراتيجيات جديدة متوسطة وبعيدة المدى تتجاوز ضمان أمن دولة الكيان الصهيوني ورعاية أنظمة حكم موالية إلى ما أبعد وإلى ما أخطر من هذا بكثير. فكانت البدايات بنظرية «الفوضى الخلاقة» كمدخل لبناء شرق أوسط كبير، ثم شرق أوسط جديد بعد إدخال بعض التعديلات، أما النهايات فكانت بمشروع الهلال الإسلامي غرب المنطقة العربية. أكثر من عشرين سنة مرت على تفعيل الإدارة الإمريكية لاستراتيجياتها الجديدة ولكن من سوء حظ هذه الإدارة أن الفشل كان نصيبها في البدايات كما في النهايات، وكأنه كتب على الفشل أن يرافق سياستكم الخارجية إلى الأبد. سعادة السفير، منذ أن انتهت الحرب العالمية الثانية، والإدارة الأمريكية التي تمثلونها تحصد الفشل تلو الآخر، فقد خسرت الرهان في كوريا وبعدها في كوبا، وخرجت من فيتنام تجرّ أذيال الخيبة وخسرت مواقعها في كل بلدان أمريكا اللاتينية بعد تهاوي الأنظمة الموالية لها ولم يبق لها هناك من الأصدقاء والأوفياء سوى ما اصطلح على تسميته بجمهوريات الموز. أما في المنطقة العربية فقد دمّرتم العراق ودمّرتم اليمن ودمّرتم القضية الفلسطينية أبرز القضايا العادلة الحيّة في ضمير الإنسانية ورعيتم تدمير سوريا والقائمة تطول وحتى الهلال الإسلامي الذي بشرّتم به من مغرب المنطقة العربية إلى مشرقها ولد مبتورا. وفي المحصلة زرعتم في المنطقة العربية من الفوضى ومن الإرهاب ما لم تزرعوه في أيّة منطقة أخرى من العالم، ولكن لا بأس، فأنتم تزرعون ونحن نقتلع، هذا قدرنا. سعادة السفير، لست أعلم، وأغلب الظن أنكم لا تعلمون بدوركم كم أنفقت الإدارة الأمريكية من أموال لتطوير مفهوم الإسلام السياسي المعتدل أو الخفيف ولتسويقه ثم لتركيز أنظمة ثورات «الربيع العربي» على أساس فهم إدارتكم وتعريفها للإسلام السياسي الخفيف. إن الخطأ الذي ارتكبه منظرو ومحلّلو الإدارة الأمريكية هو الحديث عن ثورات ربيع عربي قبل أن تحصل وكأنهم خطّطوا لها أو ظنّوا أنهم يخططون لها، وعلى كل حال فإن شرائح واسعة من الشعب الأمريكي المهمشة أولى بهذه الأموال وأجدر بالاستفادة منها عوض أن تصرف هباء. وإذا كان بالإمكان التخطيط للانقلابات العسكرية فإنه من غير الممكن على الإطلاق التخطيط للثورات ورسم مسارها والتحكم في هذا المسار إلى النهاية المأمولة. فبما يتوفرون عليه من تطور علمي وتكنولوجي غير مسبوق، بمقدور الأمريكيين التحكم كما يشاؤون في الآلات وفي أكثر المنظومات تعقيدا أو في تطويعها، لكنهم يبقون غير قادرين على التحكم في الإنسان ككائن بشري حتى وإن تعلق الأمر بأكثر الأشخاص ولاء وطاعة للولايات المتحدةالأمريكية أو من هم من صنيعتها كمثال أسامة بن لادن ومثال العديد من القادة العرب الذين رسمت لهم الإدارة الأمريكية حدود اللعبة السياسية فتجاوزوها إما عن قصد أو عن غير قصد. سعادة السفير، تتفاخر إدارتكم بامتلاكها لأكبر بنك معطيات حول دول العالم في أدق تفاصيلها ومنها دول المنطقة العربية، وتكثير من هذه المعطيات يجهلها حتى قادة هذه البلدان وعلى قدر نجاح الإدارة الأمريكية في جمع هذه المعطيات وفي تحليلها بقدر فشلها في بناء القرار السليم وفي اتخاذ الموقف السليم، ومن المضحكات إن إدارتكم تبدأ صديقة وفية للأنظمة القائمة التي ترعاها وعدوة لشعوبها لتنتهي عدوة لهذه الأنظمة وصديقة لشعوبها، فليس ثمة شيء يرعب الإدارة الأمريكية أكثر من الشارع ومن جماهيره الغاضبة، والمأساة هنا أن إدارتكم لا تستوعب الدرس ولا تستخلص العبر، فتكرر بكل غباء نفس الأخطاء القاتلة. وفي الحقيقة ليست الإدارة الأمريكية لوحدها مسؤولة عن هذا الفشل الذريع، فشركائها في الفشل عديدون وأستحضر هنا مثال مركز دراسات الإسلام والديمقراطية كأبرز عنوان لهذه الشراكة الفاشلة بين الإدارة الأمريكية والمتعاونين معها والمقربين منها من الجمعيات والمنظمات الأمريكية والعربية والإسلامية دون الدخول في تفاصيل أنتم أدرى بها. النتيجة سعادة السفير أن كل ما يقود السياسة الخارجية لإدارتكم يدعو إلى الخجل، أفلا تخجلون؟ سعادة السفير، تمتعوا قدر المستطاع بإقامتكم في بلادنا لا غير وأبلغ رؤساءك في الإدارة الأمريكية أن شعب تونس الذي تعود حضارته إلى ما قبل حضارة قرطاج بكثير هو في غنى عن أي مشروع متفرع عن المشاريع الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة العربية، والسبب بسيط جدا فكل هذه المشاريع فاشلة تصوّرا وتنفيذا، هذا حتى لا تكرّر المهازل والمآسي أكثر ممّا هي عليه. وتفضّلو سعادة السفير بقبول فائق الاحترام والتقدير.