كان من المنتظر ألا تعلن حركة «النهضة» عن موقفها النهائي من مطالب المعارضة ومن مبادرة اتحاد الشغل إلا بداية الأسبوع المقبل بعد انعقاد مجلس شورى الحركة. ولكن الندوة الصحفية التي عقدها أول أمس زعيم «النهضة» راشد الغنوشي كشفت عن أهم فحوى هذه الإجابة المنتظرة .. إلا إذا حمل اجتماع مجلس الشورى جديدا يختلف عما صرح به رئيس الحركة. إجابة «النهضة» رأت فيها المعارضة والمنظمات الراعية للحوار الوطني «تصعيدا» ورفضا للتنازل عن أي شيء. وهذا يعني أننا مقبلون على فصل جديد من «المعركة» المفتوحة بين الحكومة والمعارضة، شبيه بما حصل غداة استقالة حمادي الجبالي بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد وتكليف علي العريض بتكوين حكومة جديدة .. ستة أسابيع من الأخذ والرد ازداد بعدها المشهد السياسي الوطني توترا، وازدادت فيها الهوة اتساعا بين الشقين المتصارعين، وكلف ذلك البلاد خسائر فادحة على المستوى الاقتصادي دفع الشعب وسيدفع ثمنها . إن السيناريو الأخطر الذي يمكن أن تعرفه تونس هو أن تتفاقم الأزمة الاجتماعية إلى الأزمة السياسية الراهنة، فالمصاعب ما فتئت تزداد أمام غالبية الشعب التونسي، وشبح فقدان شرائح من التونسيين لمواطن عملهم يتعاظم بسبب وضع أمني مضطرب شل الاستثمار الوطني، ودفع بالمستثمرين الأجانب إلى إسقاط تونس من حساباتهم، ليولوا وجوههم نحو بلدان أخرى منافسة لتونس، فضلا عن الوضع المزري الذي يعيشه قطاع سياحي يشغل مئات الآلاف بصفة مباشرة وغير مباشرة. ليس في الأمر تشاؤم مجاني أو أيّة مبالغة مفرطة، فهذا التشخيص أكده خبراء اقتصاديون مشهود لهم بالنزاهة والحياد ، و جمعيات أكاديمية ومهنية مختصة لا يمكن نعتها بالتحزب والتسيس، وجاء أيضا على لسان أبرز قيادات منظمة الأعراف. نعم مخاطر حدوث «انفجار» اجتماعي تزداد احتمالا يوما بعد يوم. وفاتورة هذا الوضع الاقتصادي المتردي والمتعثر رغم كل محاولات «تجميل» الأرقام تزداد ثقلا شيئا فشيئا. وسيكون عسيرا على أيّة حكومة مهما كانت تسميتها، ومهما كانت براعة أعضائها إعادة الأمور إلى نصابها بالسرعة المطلوبة والجدوى اللازمة خاصة مع تأخر حل هذه الأزمة السياسية الخانقة. نعم ستكون كلفة ما يجري اليوم باهظة جدا غدا .. خاصة بالنسبة للفئات الهشة من الشعب التونسي. فكل المؤشرات تؤكد أن مردودية اقتصادنا في تراجع، وأننا أصبحنا نقترض بكلفة مرتفعة لا لتمويل الاستثمار وخلق الثروات بل لسد عجز هنا، وترقيع ثغرة هناك.. إن التنمية تتطلب الاستقرار ووضوح الرؤية ومصالح ومؤسسات عمومية تعمل مهما كانت أمزجة السياسيين وخلافاتهم وحساباتهم الحزبية الآنية. على ضوء آخر المواقف المصرح بها بخصوص الأزمة السياسية الراهنة، يبدو أننا نسير خطوة خطوة نحو سيناريو «كارثي» بعد أن أصبح التهديد بالتصعيد كلمة السر عند مختلف الفرقاء السياسيين. وهذا التهديد بالتصعيد بدأ يحول الشعب التونسي إلى «رهينة» لوضع لا ذنب له فيه. الشعب التونسي لا يستحق ما يجري له الآن .. وهو لن يقبل أن توضع مصالح الأحزاب قبل مصالحه .. والتونسيون الذين نزلوا بعشرات الآلاف إلى الشوارع بعد اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في عز رمضان الكريم وفي أوج حرارة شهر أوت لا ينتمي أكثر من ثلثيهم إلى أي حزب سياسي ... هم فعلوا ذلك لأنهم غير راضين على أوضاعهم .. وأصبح يزعجهم ألا يسمعوا في نشرات الأخبار غير الحديث عن الأسلحة والإرهاب والقصف والذبح والعبوات الناسفة .. باتوا يخافون على مصير بلادهم ومستقبل أبنائهم فيها .. إن أكبر معضلة تعاني منها النخب السياسية في بلادنا أنهم لا يعرفون الشعب التونسي جيدا .. ولا يفهمونه، وإلا لكانوا قدروا المخاطر التي تحدق بالبلاد حق قدرها، وقدم كل طرف منهم ما يتوجب من تنازلات، ليجنبوا هذا الشعب، الذي أهداهم الحرية والديمقراطية متاعب جديدة حتى لا يفقد فيهم الأمل نهائيا. كل ما نرجوه هو أن يستوعب سياسيونا الدروس في الوقت المناسب، وأن يتوصلوا إلى حل خلافاتهم قبل فوات الأوان.