توطئة : صدر عن دار وجوه للإنتاج الإعلامي رواية بعنوان " خارج العالم " للشاعر والكاتب والناقد : سعود الصاعدي , وهي تقع في 102 صفحة من الحجم المتوسط . ليس لي عهد بالكتابة عن مثل هذه المواضيع ، غير أن هذه الرواية الصغيرة في حجمها وفي عدد أوراقها ، والكبيرة في الإيحاءات التي ترمي إليها ، والعميقة من حيث الرؤية التي نادى بها المؤلف ، جعلتني أميل للتأمل ، وأبدأ رحلة الكتابة . في البدء لم تعجبني طريقة كتابة العنوان ، لكنني حينما انتصف الطريق بي أدركت عمق هذه الالتفاتة الذكية من قبل المؤلف في التقاطه لكتابة هذا العنوان من هذه الزاوية . - انفتاح الزمان والمكان : كان الزمان والمكان مفتوحين في هذه الرواية ، إذ أن المؤلف لم يركز على المكان من حيث هو أطر جغرافية مسيّجة بحدود ، بقدر ما ترك المجال مفتوحاً في هذا الجانب ، وكأن المستشفى هو العالم ، ومن هم خارج هذا العالم خارج الحياة . ومن ناحية أخرى لم يكن الزمن حاضراً بالنص إلا لماماً ، واعني بالزمن ، الزمن الفيزيائي ، فهذا الإقصاء المقصود أو الغير مقصود , فتح لدى المتلقي إمكانية تصور الزمن من حيث هو قيمة فلسفية ممتدة ، ولا أعني بهذا الكلام الدخول إلى عالم الخلود ، بقدر ما أرمي إلى كون الزمن بدأ يتسلل مسامات الأشياء ، ويدخل ضمن النسيج الفلسفي للأفكار والرؤى المجردة التي طرحها المؤلف في هذا العمل ، ولا أريد أن أجازف وأقول إن المؤلف اعتمد نظرية الزمكان ، حتى لا أدخل في استغراقات فلسفية وشطحات تأملية قد تفسد على المتلقي لذة الإحساس بمتعة الرواية . إن جنوح المؤلف سعود الصاعدي إلى جعل كل من الزمان والمكان مفتوحاً ، أثر هذا الاتجاه على تعاطيه مع الشخوص في الرواية ، إذ كانت الشخوص في الغالب بلا هوية اسمية ، وفي أحيان أخرى تأتي بشكل هلامي ثم تتحدد هوية كل شخص فيما بعد . - قال أحد الأطباء لزميله . - فرد عليه زميله . - كان الصوت ممزوجاً برغوة لعاب أحد المرضى - كان الآخر يبتسم بشفتين يابستين - في الممر سأل مجنون زميله - قال أحد الأطباء - قبالة النافذة يقف أحد المجانين - حدث أن اختصم أحد المجانين مع زميل له - حاول أحدهم فتح باب الحمام - وُجِد أحد المجانين مستلقياً - يجلس شابان يتناجيان الحديث هذا التعاطي مع الشخوص منح القارئ القدرة على التخيل ، وفتح هذا الإجراء الفضاء الفكري للمتلقي لتصور ما حدث على حدة , دون أن تسيّج هذه الأحداث بأي سياجات أخرى . والأمثلة في هذه الرواية كثيرة وهي من الإمكان ملاحظتها دون أي عناء . فالانفتاح على الزمن والمكان جاء للتوافق مع مزاج المجانين في الرواية ، لأن المجنون لا يشعر بقيمة المكان ولا يحس بالزمن ، لأن كل شيء لديه متوافق ، وهذا ما جعل الرؤية تتناغم مع المضمون . لهذا سعى المؤلف عبر الدكتور وديع الزاهي ، إلى ربط المجانين بالزمان والمكان من خلال تحفيز المخزون الداخلي للوعي , ودفعه إلى التحرك من المكان المظلم في جهة عقله المعطل ، وذلك من خلال عملية البحث عن الغليون . - بين الرمز والترميز : من خلال إطلاعي على كتابه " تأويل الرؤيا في الصحيحين وعلاقته بتأويل النص الشعري " أدركت أن المؤلف أسقط ما في بحثه الأكاديمي على هذه الرواية ، لاسيما في بعض الجوانب فيها ، إن لم تكن الرواية تطبيق عملي من خلال المشاهد المقدمة للتنظير الفلسفي الذي ذهب له المؤلف في الكتاب الذي نال به درجة الماجستير . لهذا فرضت فلسفة العلاقة بين الحلم والرؤية نفسها على مجريات الأحداث في الرواية ، إذ أن غالب أحداث الرواية وشخوصها رموز لهذا العالم . فربيعان الصويلي الذي كان يحاول ارتقاء الجدار ، وكأن هذا الجدار يرمز إلى محاولة الوصول إلى نصفه الضائع ، أو اختراق الحاجز النفسي له مع الزمن للوصول للواقع . لقد كان المؤلف من خلال هذا العمل يرمز إلى القول بأن المعادلة الإنسانية في هذه الحياة مقلوبة ، فالعالم هو المستشفى , بينما المستشفى هو العالم ، والمجانين العقلاء والعقلاء المجانين ، لأن التميز الحاد جنون في عرف المجتمعات ، وكلنا يعرف موقف كفار قريش من الرسول الكريم في بداية دعوته ، حيث وصفوه بالجنون ، وذلك أن المجتمعات النمطية ترفض أي شيء متغير . لهذا يمثل سحيمان الإنسان الثائر على ضياع هيبة اللغة العربية الفصحى ، وتراجعها أمام طوفان الأخطاء الشائعة ، فهو يقول في هذه الرواية : " ثكلتني العربية إن امتنعت عن التدخين استجابة لهذه اللوحة الإعلانية الحمقاء " في إشارة إلى الإعلان الشهير " ممنوع التدخين " وذلك أن النكرة مقدمة على المعرفة في هذه الجملة دون مسوغ كما يقول علماء النحو ، ومن ناحية أخرى نستطيع أن نفهم أن المعلم سحيمان يمثل التعليم التقليدي والمعلم أبوزر الذي جاء بدلاً له يمثل التعليم الحداثي الإليكتروني ، وقد قدم المؤلف كلا النوعين في وضع شائن ، فالأول مجنون والآخر في وضع السخرية . وهنا نفهم أن التقليدية الفجة مرفوضة , في الوقت الذي لا يجب استساغة الحداثة المائعة , فالإعتدال مطلوب بين هذا وذاك . إن اعتماد المؤلف على العلاقة بين الحلم والرؤيا ، جعله يوجد نظرية الشاخص وظله الذي أشار إليها الدكتور وديع الزاهي ، وهذه لها علاقة بمسألة تعبير الرؤيا ، وهي انعكاس لفهم القصيدة ، وهذا الوضع مأخوذ من مشروع الدراسة العلمية التي قدمها في هذا المجال . لم يقف تعامل المؤلف مع الرموز عند هذه النواحي ، إذ امتد الشهد معه في أنحاء أخرى متعددة . فشاهر الراكي العاشق الذي قاده الحب إلى دار المجانين . فهو هنا يمثل إشكالية العلاقة في المجتمع ، ومدى التفاوت الطبقي بين القبائل ، أو بين الأسر في القبيلة الواحدة ، وكذلك فيه إشارة إلى الجدلية الأزلية في ضرورة ارتباط البنت بابن عمها . أما الشاعر الشعبي أو بائع الورد كما أشارت له الرواية فله دلالتان : الدلالة الأولى نابعة من السياق القصصي في الرواية , وهي عدم الإشارة لاسم هذا الشاعر ، أي أن المؤلف لم يطلق عليه أي اسم مما يشير إلى عدم فاعليته أو حضوره ، والدلالة الثانية نابعة من الزمن الذي تجاوزه وقضى عليه ، لأن عالم المحسوبيات تراجع لصالح العالم اللانخبوي ، عالم الكتابة بالمفاتيح والتعامل المباشر مع حركة الضوء ولوحات التحكم من خلال عالم الإنترنت ، وعالم المنتديات , وعالم البث المباشر ، الذي فرض على الشعر واقعاً جديداً ، فهذا الواقع هو الذي أحدث الإنشطار والتشظي في شخصية بائع الورد . - جنون العقلاء : كانت شخصية صعيقر هي الحل والمشكلة في آن . فهو الحل بالنسبة للدكتور وديع والمشكلة بالنسبة للدكتور زياد والدكتور خشان ، فشخصية صعيقر شخصية افتراضية أوجدها الدكتور وديع للوصول إلى عالم المجانين ، وهي تعادل العالم الافتراضي الذي أوجده المؤلف , والذي قال عن روايته في أول الكتاب " جرت أحداث هذه الرواية في مخيلة الكاتب ، وكل ما فيها من أسماء وأحداث إنما حدث " خارج العالم " وهو من قبيل ضرب المثل ، وعلى ضرب من التأويل " . فهذا التأويل هو الذي قاد المؤلف إلى الكتابة ، وهو نفسه الذي حرضنا على التفكير . لقد وقع الدكتور وديع الزاهي بالخطأ ، حينما رفض الإفصاح عن شخصية صعيقر كما نصحه رئيسه في العمل الدكتور لطفي الحواف ، حيث عامل زملاءه الأطباء معاملة المجانين , حينما خبّأ عنهم هذا العمل , وهذا مؤشر على جنون العظمة ، وفيه إشارة أن العبقرية المفرطة قد تقود إلى الفشل الذريع ، وأن ليس كل مجتهد مصيب ، وأن العمل الدؤوب شيء والنجاح فيه شيء آخر . أما الطبيبان " خشان وزياد " فقد أفسدا على الدكتور وديع خطته من دافع جنون الغيرة ، حيث عملا سوياً على إيجاد ألف غليون بمواصفات غليون صعيقر ، موضع المسابقة بين المجانين ، لقد تحول الصراع النفسي من المجانين إلى العقلاء ، مما أفسد خطة اكتشاف العقلاء من بين المجانين ، وكما قال أحد الطبيبين في الرواية : " فإذا كان لديك أحلام فللأطباء أحلامهم ، وإذا كان لديك صعيقر ، فللأطباء صعاقرهم " . - ملاحظات : في هذه الزاوية فضلت إدراج عدد من الملاحظات , وذلك أنني لم أستطع أن أدرجها في أي زاوية من الزوايا السابقة . الملاحظة الأولى : شكلت مشاهد المستشفى عشرين مشهداً ، بينما المشهد رقم (21) كان مشهداً انتقالياً ، أما المشاهد الثلاثة المتبقية فكانت تدور خارج المستشفى . هذا الانتقال بين مشاهد المستشفى ومشاهد الحياة ، وجدت من خلاله أن الحرارة العاطفية والتوهج النفسي والفكري انخفض , حينما انتقلت المشاهد إلى الخارج الملاحظة الثانية : رغم أن لغة الكاتب كانت لغة أدبية عالية المستوى , وكان أسلوبه أسلوب رفيع ، مال فيه إلى الحداثة الأدبية المنضبطة – إذا أجيز لنا استخدام مثل هذا المسمى – غير أنه في المقابل جاء بأساليب تقليدية أو تميل إلى التقليدية في أكثر من مشهد ، وهذه بعض الأمثلة : - إحاطة السوار بالمعصم - أكل عليها الدهر وشرب - ويراقبونه عن كثب - دهاقنة الطب النفسي الملاحظة الثالثة : كانت هذه الرواية الجميلة تعج بالذكور . فهذا الحضور الكثيف للرجال جاء على حساب دور المرأة في هذا العمل ، لاسيما المرأة المحبوبة والمعشوقة ، فهذا الذبول أثر كذلك على حضور دور الأم عند الحديث عن قصة شاهر الراكي , حيث أن الحديث كان حديثًا عابرًا . - الخاتمة : قال الدكتور وديع في هذه الرواية : " أن المجنون رجل عاقل تجاوز مرحلة العقل بنجاح ، ووصل إلى الجنون بعد تجربة حياتية فذة ونادرة " ، فالجنون كان في هذه الرواية غاية ووسيلة ، غاية لأنه يمثل لحظة التوحد مع الذات ، ووسيلة لأن المرء من خلال الجنون يهرب من أعباء هذه الحياة ، لهذا كانت نظرية المرآة المقلوبة هي المحور الذي كانت تدور حوله الرواية ، وهذه النظرية هي عالم الجنون = عالم العقلاء مقلوباً ، وهي النظرية التي أطلقها الدكتور وديع الزاهي عندما كان طالبًا في الجامعة , وهذا ما جعل الدكتور شاندر بقول بعد انقضاء الجولة داخل المستشفى : " ما لفت نظري في هذه الجولة أن المجانين مشغولون بما في أيديهم ، لا أحد مشغول بالآخر ، لا أحد ينظر في زميله أو يتطفل عليه ، كأن الجميع في هذه الحديقة مؤمن أن الحياة فرصة عمل ، أو انهماك في رغبة ، أو تحليق في أفق ، أو سفر في عالم من الخيال " . لهذا كانت هذه الرواية محاولة لحدوث التقاء ظرفي بين المكان والزمان من خلال تفتيت الطبقة المظلمة والقصية في العقل البشري , وقد حاول المؤلف سعود الصاعدي الاعتماد على هذه الفرضية , لأنها بوابة الدخول إلى الرؤيا والحلم , باعتبار أن المجانين يحلمون كما يقول أحد شخوص الرواية , وهذا التحفيز الذهني للمخزون المعطل في الجهة المدمرة من العقل البشري , محاولة لانعتاق هذه الفكرة كموقف فلسفي تنظيري , لتكون حدثًا ماثلاً يمكن التعامل معه في آخر المطاف .عبدالعزيز الرميحي