نظرية الأدب بين إسلامية سيد قطب وعلمانية نيتشه ** أدب المنهج الإسلامي عند سيد قطب : إن الإسلام في رؤية سيد قطب: هو حركة إبداعية خالقة ، تنشأ عن تصور معين للحياة بكل قيمها وارتباطاتها ، والأدب في هذا التصور هو تعبير موح عن هذه القيم والارتباطات ، وأي محاولة لتجريد الأدب منها لا يخلق سوي بعض العبارات الجوفاء ، ربما تنزع إلي المثالية التي لا تتحقق غالبا، والارتباط بالقيم في رأيه ، هي حركة تبدأ في الضمير، ولا يتم تمامها إلا حين تتحقق في الواقع. من ثم فإن الأدب المنبثق من التصور الإسلامي للحياة ، قد لا يحفل كثيرا بتصوير لحظات الضعف البشري ، فضلا علي أن يزينها بحجة أنها واقع ، لأن الإسلام يري أن في البشرية قوّة أيضا ، ويدرك أن مهمته هو تغليب القوة علي الضعف. الأدب الإسلامي إذن ، يلم أحيانا بلحظات الضعف البشري ، لكنه يحاول رفع هذه اللحظات متأثرا بطبيعة التصور الإسلامي للحياة التي لا تؤمن بسلبية الإنسان، ومن هنا فإن الأدب الإسلامي يرفض ملئ الفراغ البشري باللذائذ الحسية والتشهي الذي يخلق – حسب الرؤية الإسلامية – قلقا وحيرة وسلبية. ويري سيد قطب أن الخطب الوعظية ليست سبيلا للأدب لأنها وسيلة بدائية لا عملا فنيا ، لكنه يري أيضا أن العقيدة محال أن تتحول إلي عبادات وشعائر قابعة سلبيا في القلب ، لأنها لابد تنطلق في محاولة إبداع الحياة كلها ، ذلك الإبداع الذي ينشئها من جديد ، لا أن يرقع بناءها – القائم في الأساس – علي تصميم آخر. إن الإسلام لا يعطي للصراع الطبقي أهمية تذكر كمحور للحركة التطويرية للفن ، صحيح أنه لا يرضي بالظلم الاجتماعي ، وربما يعمل لمكافحته وتبديله ، لكنه لا يقيم حركته التطويرية علي ما أسماه قطب : الحقد الطبقي ! ، بل إلي إطلاق النفس من الانحصار في الطعام والشراب والجسد . المثير للدهشة أن قطب يري علاج هذه الآلام ، علاجا واقعيا عمليا – لا وعظيا خياليا – مجاله ليس الأدب !! في اعتراف ضمني ، يري سيد قطب أن الأدب الإسلامي أدب موجه : موجه بطبيعة الفكرة الإسلامية ذاتها ، وبالمنهج الذي تلتزمه .. لكنه ينفي بشدة أن يكون هذا التوجيه إجباريا ، علي نحو ما يفرضه أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ ، كما ينفي أن يكون الإسلام حجرا في وجه الفنون ذاتها ، معتمدا علي نظرية تقول : إن الإسلام يعارض بعض التصورات والقيم التي تعبر عنها الفنون ، ويقيم مكانها تصورات وقيم أخري قادرة أن تتكيف مع خصائص الإسلام المميزة. أظن أن قطب يعني أن تكيف النفس البشرية مع التصور الإسلامي للحياة هو وحده سيلهمها صورا من الفنون غير التي يلهمها بها التصور المادي ، وبهذا فهو يشير إلي أن التعبير الفني لا يخرج عن كونه تعبيرا عن النفس وامتلاءها بالمشاعر الإسلامية وكفي !! ** أدب العالم السائل عند نيتشه : يحقق نيتشه العلمنة الكاملة للحياة ، فهو يطهرها تماما من أي قيم وثوابت أخلاقية تتجاوز المادي والمباشر، ويحطم تمام ما كان الفلاسفة يسمونه مقدسا وحقا ومطلقا ، ومن ثم يتم القضاء تماما لا على الأساس الديني للأخلاق وحسب ، وإنما يتم القضاء أيضا على أي يقين معرفي ، وعلى أي مركزية لأي كائن، أي أن العالم بذلك يصبح سائلا بلا يقين أو هوية والإنسان يصبح بلا حدود ولامركزية. هذا الإنسان – إنسان نيتشه - لم يخلق ليعيش في دعة وسلام وطمأنينة ، فواجبه أن ينمو ويحقق إمكانياته ويرتقى دونما شفقة على نفسه أو رحمة بالآخرين وهو سيحقق ارتقاءه من خلال الاختيار الطبيعي متجاوزا الخير والشر ! وذهب نيتشه إلي أنه في عالم أدبي يتسم بالسيولة الكاملة، تختل علاقة الدال بالمدلول ، ويؤكد لنا انطلاقا من رؤيته المادية، أن الروح في واقع الأمر تشير إلى الجسد ، الذي هو ترتيب لبعض القوى الطبيعية وعمليات تجسد إرادة القوة. هو ينفي إذن المساحة بين الأدب والحقيقة ويصفى تلك الثنائية تماما ، ويقرر أن النص الأدبي هو فعلا نسيج، ولكن النسيج هو ذاته الحقيقة، والذات المبدعة هي جزء من هذا النسيج - كالعنكبوت في بيت العنكبوت - لكنه لا ينفي المسافة بين المبدع والنص والحقيقة وحسب ، وإنما أيضا المسافة بين نص وآخر ! ، وقد طرح فكرة التناص الأدبي باعتباره حوارا لا ينتهي بين النصوص الأدبية. يذهب نيتشه إلى أنه لا يوجد أدب بريء طاهر أصلى ، فمثل هذا الأدب إما لم يوجد أساسا أو فقد إلى الأبد ، علي هذا فالأدب هو أداة يلغى بها المسافة بينه وبين الطبيعة ، و يلتصق بها ليعبر عنها في صورتها الأولى قبل أن يشوهها العقل، أي أن الأدب تعبير عن النزعة الجسدية العارمة المفعمة بالنشوة المعربدة قبل ظهور النزعة العقلية التي تتسم بضبط النفس والرغبة في التفسير العقلي للكون، والأدب بهذا المعنى يتجاوز الخير والشر، كتعبير عن الحياة باعتبارها قوى متصارعة ، وهو قادر على تغيير العالم والتبشير بالعالم الجديد. في اعتقادي أن نيتشه يرمي إلي أن الواقع كالعمل الفني مكون من استعارات من صنع عقل الإنسان، لذا فهذا الواقع وهم كبير! كل هذا يعنى أنه لا توجد حقيقة وإنما يوجد منظور ، وإذا كان الواقع سائلا ووهميا فكذا الذات، فالإنسان مثل الفنان يخترع نفسه إذ لا يوجد ذات ثابتة، بل إن الذات من اختراع الذات. ** المراجع : - في التاريخ .. فكرة ومنهاج ، سيد قطب " دار الشروق ط8 2001 " - هكذا تكلم زرادشت ، فريدريك نيتشه ، ترجمة فليكس فارس " ط1 1938 " نيتشه فيلسوف العلمانية الأكبر ، د. عبد الوهاب المسيري " أوراق فلسفية "