يا صاحبي أين غبت هذا الليل عني .. منذ أن عهدت سماع هاتفك وصفيرك ، وصعود صوتك وانحداره ، منذ أن أصابني المس اعتدت على صحبة ليلك ، لم أعد أبالي بالدهشة أو الخوف.. صرت أناشد هاتفك أن لا يبقى مرموزا حتى لاينزغني نزغ لا أعلم خطورته . يا صاحب اللحن الخفي , ماذا قصدت بتحبيرنغمتك في صفيرك وهاتفك؟.. يوم وجدتني في ذلك الليل أكابد جراحات " نسمة " وقد دخلت علي ، فجلست دون أن تلقي سلاما أوتنطق بحرف .. قصدت نسمة المذياع فأشعلته ، فلم تسمع سوى أخبار عن حرب الإبادات في أنحاء متفرقة من المعمورة ، فأطفأته ، وتقدمت نحو قنينة الماء المعدني ففتحت غطاءها وشربت منها حتى ارتوى عطشها.. وقفت نسمة وقتا من الزمن تنظر إلي ، فتقرأ من ملامح وجهي المتغيرة لغوا كثيرا من أحاديث العفرتة.. استطال صمتها ، بينما واصلت محاورة صاحب اللحن الخفي لأزيد ملامح وجهي وابلا صيبا من الإبهام والطلسمات التي أجبرت نسمة أن تسألني سؤال المستخفة : - هل دخلت عليك " شعبانة " ، أم لم تدخل بعد ؟ طردت ما كان بي من أحاديث العفرتة ، وتفرغت إلى حديثي مع نسمة : - آه .. لقد ذكرتني باحياء " شعبانة " ، وسأحييها ليلة الجمعة القادمة . التصقت بجانبي ، ورفعت عينيها الى الحائط الذي استند ظهرها عليه ، فنظرت إلى آلة " الهجهوج " معلقة على مسمار ضخم مثبوت على الحائط.. سحبت " الهجهوج " من على المسمار ، وشرعت تعزف عليه بعفوية دون إيقاع معين ، أنغام متفقة وأخرى مختلفة ، فسحبت الآلة من يديها الرقيقتين ، وقلت لها : - سأعزف لحنا اكناويا بمناسبة " شعبانة ". انفرجت أسارير وجهها وكشفت عن ثغرها المليح ، وهي تقول : " ذلك ما أريد سماعه .." فبدأت أعزف لحنا على آلة الهجهوج بلين ، بينما نسمة تشنف أسماعي بصوتها الرخيم الممطوط الساحر ... عادت إلي في لحظتي العفرتة من لدن هاتف صاحبي بلحنه الخفي مع صوت نسمة السحري ، فصعدت من درجة العزف بقوة ، أمنح لأوتار الهجهوج كلما يعتمل في أعصابي من توتر وفي داخلي من انفعال وتاثر، ورد فعل عقب أحاديث العفرتة وصوت نسمة... انجذبت نسمة بشديدي العزف على الهجهوج ، فقامت مدفوعة برغبة الرقص التي لا تقاوم.. واصلت بقوة العزف ، فانغمست نسمة في بحر لجي من الشطح .. ربما رأت حالات من الكشف .. ربما " بردت جنونها" . هاهي تزداد شطحا وتمايلا برقصها المكثف .. انحلت ربطة شعرها وهي تلوح برأسها هنا وهناك .. انسدل الشعر الأسود الداكن الطويل اللامع حتى وصل أسفل ظهرها ... كم هو جميل جمال نسمة وفتان!... كم هي أكثر إثارة وهي " تتحير" بذلك " السالف" الحريري!... جمال أمازيغي في لحظة التمرد و" التحير"، في لحظة الشطحات الكناوية ، وإنشاد ميمون الكناوي ، أغمسها في غيبوبة " الحضرة " . كانت نغمات الهجهوج في مراحل موسيقاها الصامتة المنفصلة عن الغناء تجعل نسمة تقرأ من تلك الإيقاعات الهجهوجية لغة مثقلة بالكشف والإشراق.. ظلت نسمة على حالة الشطح حتى أعياها رقصها الكثير وداخ رأسها ، فسقطت على الأرض بعدما نفست عن نفسها كلما بها من"هوايش". تركتها قليلا إلى أن استرجعت بصيصا لا بأس به من اليقظة، فأشممتها رائحة " القطران " ، فزالت عنها كليا غيبوبة الشطح ... أسندتها فوقفت ، فقدتها إلى صنبور المطبخ ، فغسلت وجهها المليح ، ثم قالت لي وهي واثقة كل الثقة من استرجاعها لوعيها وكامل يقظتها : - لقد أحيينا ليلة " شعباتة " قبل مقدم ليلة الجمعة. قمنا نحو غرفة الأكل ، فأعدت نسمة مائدة العشاء .. انفتحت شهيتي على الأكل ، أما نسمة فلم تكتف سوى باحتساء جرعات يسيرة من الحساء. وضعت نسمة مشربة الحساء ، واستودعتني .. ناشدتها كثيرا كي تبقى قليلا من الوقت ، لكنها كانت منشغلة بأمر الدقيق الذي لم تحرقه بعد في الفرن لتعد " سفوف " رمضان . خرجت من البيت فبقيت لوحدي ، وما أن أتممت عشائي ، وأويت إلى فراشي حتى عاد صاحبي الذي غاب هاتفه عني . عاد لي لحنه الخفي ، لكنه أدرك أني أخذت حظي الوفير من المس السابق ، والمس كذلك بنغمة عزفي على آلة الهجهوج ، وتأثري بشطحات نسمة وصوتها السحري . سكت هاتف صاحب الصفير ، فبقيت منذ ذلك الليل إلى الآن غير مندهش.. لم يزرني لحد الآن صوت صاحبي ، وزال عني المس ، لكني ما برحت ممسوسا بنغمة العزف على الهجهوج . أكادير : 1996-11-22