جوق الراقصين أجساد نحيفة تتصبّب عرقا بين ارتخاء وتشنّج، تصور أعضاءها وبالأحرى تصوغها للناظر أباريق على هيئة الطيور في أبهى تجسيم فني حي ينبض جمالا وحذقا صناعة. تفانوا في بذل ما في المهجة من طاقة توحيد، حتى لم يعد يثقل عليهم تعب الدوران في حبهم لمولاهم. وما زادهم ذلك إلا حسن ثقة وسكونا يتخلّل الوصلة تلو الأخرى. إيقاعات سليمة النية من آفة الشهوة تجعلك في مرض اكتئابك وأنت تضحك وهذه بحدّ ذاتها، واحدة من الرسالات التي أداها العرض باقتدار وهي من الشمائل المخصوصة بالطرق والخلوات كالشافعية والرفاعية والنقشبندية التي لا تمانع أن تطير روحها في الرقص اشتياقا لصاحبها. نغمات شديدة الوقع، يلين لها جبل المقطم. وفدت من الجهات الأربع لأرض مصر حيث لا ندري، الى أين يمضي بها الوجد؟ ربما هي تجريد دلّ على اشتياق المهاجرين في طريق وصولهم الى مكة المكرمة؟ طبول نوبية تأخذ العقل بسحرها كلما :أوغلت في نقر الأبواب الموصدة للنفس المتأزمة، انشرحت لها الجوارح غبطة وإمتاعا، وفق نغمات لا ينقطع دفقها، كما النيل يروح بعيدا، وكما المريد يجيء مبشّرا بالعيد والفتح القريب. لا تتناقض «التنورة» حين تصرخ: واحزناه، ثم تنقلب العبارة الى نداء واطرباه! هذه أبواب السماء قد فتحت وهذه الأرض قد زينت للناس بالة رباب هي أقرب من المحبة الى الفهم والاستغراق في معاني أوتارها المتعطشة الى لقاء المحبوب. وبالتالي هي جليلة لا تنخرط في سلك لهو أو سهو أو مجون. بنفخة مزمار يكون الفناء عن أحوال البشرية المشدودة الى غرائزها الجيّاشة ناهيك وأن السّامع العربي، يفضل نغمه الفتنة الحسية، على العبرة التي تغلب المناجاة إن كانت تستلذّ الصوت الشجي، وأحيانا يتضافر فيها سماع الطبع بسماع الحال السماوي. موسيقى التنورة بالمعنى التقني، وبحكم تآلف الأصوات في الصوت الواحد، تجعلك مصغيا الى نغمة ولكن بنبرتين مقترنتين في ذبذبة الرنين، وحلاوة الأداء، بطريقة علمية تسمى ستيريو stéréo أي ثنائي على نقيض الصوت الأحادي الرتيب monophonie بوصفه مادة علم الأنغام، لا ينفي ما يضاده، بل ينتفع منه بنسب للتنويع تلقائيا وهذا ضرب من الإلهام، لا يدرس في أكاديمية فما تنعم به الأذن اليسرى، بتبدّل ذوقه في ذات الوقت بالأذن اليمنى وإن هي إلا أصوات، بمثابة الأرواح تنقلب بين الظن واليقين في واقع كأنه الحلم. الراقص مصطفى أنوس في نسيج كوكبه المتلون، إضافة الى كونه يقدم بالتنورة كرنفال الطفولة على مستوى الأصباغ المخططة وهو يدوم كخذروف لاعب، لكي يتسنّى رجوعه الى الاحساس بعد الغيبة في التهويم السريع بشكل لولبي، لا بدّ له من قوة، أي من مدد يتغلّب على أعضائه المتواترة الخفقان، فيرشدها، وذلك حاصل بالفعل من كرامات الاعتقاد، والذود عن الهوية المصرية في عراقتها الخلاقة. ولا يكاد يصل الى هذه الرتبة، إلا من دأب على الارتياض وبذل الجهود المثمرة. مزمار السلامية كلما أظلمت عليه سماء الحياة بحكم فقدان يؤثر في النفس موقعه أو والدة خليل لحقت جنازتها بالسبيل الذي لا احتراز منه ولا مجاز عنه. لمعت بوارق التبدل في طبقاته، وازدادت قواه يقينا وربما ساق الى السامع سعادة إهلال شهر رمضان، بما يرجوه، وقد حول آلة القصب الى دعاء مسموع حتى يخيل إليك أنك في زيارة الرسول الكريم صلّى اللّه عليه وسلّم، ماشيا بين قبره ومنبره، مع ترك فسحة للنفس تصيب فيها من المألوفات الشهية على هواها، وضد مقاساة كل صعب شديد، فنيا نستنتج أن اليأس مهزوم بطريقة تحويل المزموم الى سيكاه سريعة الطرب فلكية الجري والخفة يبثها من روحه الفنان جميل جمال. لدى استماعك الى مقامات الدوه أو الرست لما فيهما من شجن المحبة ومباهج الزفاف ومسرات الختان. لا تتمالك أن ترسل نفسك على سجيتها دون إخلال بشروط التربية، وذلك من جميل لطفهم الموسيقي أي فرقة التنورة إذ باتخاذ نغمة الصبا في تناسبها لسرد الغنائيات ذات الخطاب الشعبي يحصل وجود الاستئناس، وبالتالي يمحي أثر الاختلاف بين القوم والأجانب المحيطين بالمجموعة، تحلقوا حول عازف الربابة حسين متولي في ساحة كأنها مرتع الأحباب. الطبل واحدة من أعرق الآلات الموسيقية التي اتخذتها شعوب ما قبل التاريخ لطقوسها والضارب «محمد رضا» يعرف كيف يمتع بنقراته السامع، وكيف يزعجه قصدا حين يستنبط له صوتا رعديا لينذر بالفيضان تنصت إليه عن بعد كالهدير في بادئ الأمر تستوحش منه ثم تألفه بالحركة المرافقة للإيقاع وفق نوبة حامية، تجعل العازف يتغير ويرتعد، لولا معاني النصر المكللة بالرايات الهفهافة رمزا تستشفها من النغم الذي يجمع في الأذن أهازيج موسم الحصاد الى الفتوحات والشرف بطريقة لا تقدر معها أن تمسك على النفس شطحها بل ترسله ولا تشعر حتى يحصل الخمود بالتدريج. عصام عبد المنعم في قميصه الأخضر الطويل موشحا بالكتابات الدينية المذهبة، تراه غائبا يرسل الأشعار بالألحان الطيبة، وقد انقادت له صعابها، وإن أراد سبقا جهوري النبوغ يرخي حباله الصوتية على وجه الرفق بقلوب محترقة عشقا وعناء ومكبوتات وما أظن أنك تسمع صوتا أعذب من صوته وأشفى لما فيه من رقة الطبع التي يعالجون بها من أدركته علّة السوداوية ومن قوة الإيهام بوجود قافلة في البادية، يحدو لها الحادي للتخفيف من ثقيل حملها والحث على سرعة السير في أحسن نغمة رخيمة الصوت أسكتت الولدان بأحضان أمهاتهم، واقفات يواكبن الحفل حتى القفلة الأخيرة بساحة باب الشهداء. كذلك الشأن بالنسبة لمحمد عبد العال ضارب الطبل الصعيدي وخاتم حانة وأحمد لما في صناعتهم من الإمتاع وتمجيد البطولة، مع الاقتباس اللاواعي من عزف النشيد الخديوي والبشارف التركية والثابت أنه فن مدون ومتوارث نجد بذوره في المسرحية الغنائية التي دأبت على إرسالها السيدة منيرة المهدية وسيد درويش والشيخ سلامة حجازي، وفي هذا يقول محمد تيمور: «أما طريقة إنشاده فكانت تختلف عن طريقة المغنين، وكانت ألحانه توافق المسرحية فإذا لحن لحنا غراميا شممت منه الحب، وإذا لحن لحنا دينيا، دخلت في نفسك الهيبة والجلال إذا سمعته». ولكي نربط حاضر التنورة بتاريخها ففي محاضرة نادرة ونفيسة، كان ألقاها رجل المسرح الغنائي المصري أبو نضارة في باريس سنة 1903، حيث قال «ولد هذا المسرح في مقهى كبير، كانت تعزف فيه الموسيقى في الهواء الطلق، وذلك في وسط حديقتنا الجميلة الأزبكية في ذلك الحين أي سنة 1870م.. وعندما أحسست بأنني أصبحت متمكنا الى حد ما، كتبت غنائية من فصل واحد باللغة العامية وأقحمت فيها بعض الأغاني الشعبية الشائعة.. ثم مضيت الي قصر عابدين، وقدمت مخطوطة هذه الغنائية الى خيري باشا وهو الذي كان يتولى الاشراف على احتفالات الخديوي اسماعيل ورجوت سعادته أن يقدمها مع أصدق الاحترام الى سموه كما قلت له: انه يعد تنازلا منه أن يسمح مقامه بمساعدتي لإرشاد مواطنيّ في الطريق الشائك الذي يؤدي بهم الى الرقي والمدنية.. ويبدو أن خيري باشا الذي كانت تربطني به صداقة وثيقة، قد استخدم كل ما أوتي من بلاغة كي ينهي الى السيد العظيم رسالتي، وقد وفق لي أن يقرأ له غنائيتي، وأن يحصل على الإذن بتمثيلها على المسرح الموسيقي théatre - concert في حديقة الأزبكية». من كتاب المسرح للأديب محمد مندور مع ورقات متصلة برفوف الأنترنت. والغريب أن هذه الإيقاعات ظلّت سارية سريان الماء في الوردة والمعاني في الحروف ولم تندثر بفضل الدور الذي تؤديه فرقة التنورة الى يوم الناس هذا. إشارة: بدعم مادي وأدبي من قبل المسؤول الثقافي الأستاذ «محمد البشير التواتي»، قدمت فرقة التنورة ثلاثة عروض في إطار القيروان عاصمة للثقافة الاسلامية وذلك في شهر نوفمبر بساحات باب الجلادين وأولاد فرحان وباب الشهداء 2009.