فاتن كشو "هزي حرامك وخمريك على وشمك هبلتيني لا مال ولا باش نشريك غير كلمتك حصلتني" ترقص الفرس الغراء وتتهادى وقد تحلت بالقلائد وبأبهى حلل الزينة . ترفع قائمتيها الأماميتين على الأنغام البدوية الرقيقة والأهازيج العذبة .ما أحلاك يا عرس البدو و نقر الطبل الجميل متزامن مع حركات الفرس الرشيقة والفارس المغوار يمتطي صهوتها ، يصول ويجول . يتردد الصوت في النجع ويمتد إلى الجبال المحيطة والوهاد والسفوح حتى تردده أحجار المقاطع والجبال. عرسك تحدث عنه كل الناس بكل نجع وصوب وارتاحت مهجتي لرؤيتك عريسا متوجا بين صفيّْ " العرّاسة " وقد غرست الأوتاد ونصبت" بيوت الشَّعر" والخيام وأكل الجميع الكسكسي ب "المسلان" وأنشد الشعراء أجمل القصائد وذكروا البادية والفرس والفرسان والنجع والهضاب والليل والسمر وأنغام المزمار وعوائدنا ومدحوا جمال بناتنا و رفعة أخلاقهن …وأنت ظفرت بإحداهن ، ظفرت ب"شهلة" سيدة البنات : عروسا متوجة كأنها شجرة حناء فاح شذاها في كل الدار وفرحت بمقدمها أمك وازداد "الحوش" بهجة . ارتاح قلبي الآن وهدأت خواطري بزواجك واطمأننت على مصير أمك بعد زواج أختيك صالحة وفوزية وهما تسيران الآن على درب أمك في رحلة الكفاح وعناد الزمن وتحمل الصعاب التي نكابدها على هذه السفوح وتحتها. نستقبل كل يوم صبحا جديدا وتحيينا الشمس رفيقة دربنا صيفا أو شتاء، هي مؤنستنا دوما، عشقنا لفحها وقيظها ودفئها ووهبتنا الضياء يفرحنا ونستعيض به عن غياب المرافق التي تسهل الحياة ومظاهر المدنيّة التي نراها كلما غادرنا ربوعنا " موطن الشمس" إلى العاصمة "تونس" أو إلى المدن الساحلية المرفهة … القوسة والسند مناطق سكنها أجدادنا الأمازيغ وتركوا فيها آثارهم منحوتة فوق السفوح ، تروي حكاية عنادهم للطبيعة القاسية هنا. ألبس ال"الكدرون" كل فجر وأضع " شاشيتي" الحمراء على رأسي وألفُّ وجهي بال"بشكير" وأفتح الباب الخشبي العتيق يا حمة ! بعد أن تكون أمك قد أمدتني بحفنات تمر وقطعة "كسرة"مغموسة بالزيت أو فطائر " المطبقة" تصنعها فجرا حتى آخذها معي ساخنة و"كوز" به ماء وأيمم وجهي شطر المقاطع الجبلية وأنت تعرفها كلها كم رافقتني حين كنت طفلا صغيرا. كنت تكابر وتودُّ رفع "التكّورة" معي لتقطع حجرا ولتشعر أنك صرت رجلا قادرا على مغالبة الصخور عدوّنا الأبدي وصاحبة الفضل علينا ومصدر رزقنا وقُوتِنا. الصخور في القوسة قصة موت أو حياة ، قصة خوف أو أمل، نعاندها ونحاول غلبتها . صراع مستمر ويومي معها . كي نهزمها يجب أن نكون أقوى منها فنكسرها ونقتلعها من محجرها وحتى إن كسرناها وسقطت قد تثأر لها صويحباتها الصغيرات فتقع على رؤوسنا وتدحرنا فنكسر أو نصاب بجروح أو قد نفقد بصرنا كما حصل مع عمك " مْنَصّر" الذي أصابه تراب جيري بعينيه فأفقده بصره وضحكت منه الصخور ولم تأبه له ولا لجوع أولاده. أو لعلها أشفقت عليه أو افتقدته بالمقطع لكنه لم يعد قادرا على مناجاتها والتقرب إليها كل يوم ، أو مغازلتها ب"التكورة" أو "البينصة". الحجارة -يا بني ! – أرحم من قلوب الحجر القابع أصحابها هناك وراء المكاتب الفخمة والساكنين في القصور المنيفة بالمدن المرفهة. هم هناك لا يرون مآسينا ولا عذاباتنا ولا فقرنا وعرينا، يركبون السيارات الفخمة اللماعة ويسكنون البنايات الحديثة ونحن هنا رفقاء الشمس والأرض نصنع بيوتنا من طينها، نحصل قوتنا من حجارتها. مركوبنا إن توفر حمار مسكين يحمل الحطب والماء من حنفيات بعيدة كأن من أنشأها لم يعرف أن بهذه المناطق بشر وأطفال ونساء تعبت من جر الماء على ظهور الأحمرة والبغال أو على ظهورهن…ولكن لا تنس يا بني أبدا أن هذه البقاع هي موطن الشمس أرض أجدادك العظماء، فرسان وأبطال لم يبيعوا أنفسهم لأحد ولا فرطوا بكرامتهم يوما وقد كتب التاريخ فصولا مضيئة من إيبائهم وعزتهم وشرفهم الرفيع …هنا بهذه الأرض ننزف عرقنا، نعجنه بتربتها، نذرفه على صخورها لنعيش. تأتي الشاحنات إلى هنا وتعود إلى هناك محملة بالصخور حيث المنازل الفخمة والبناءات الحديثة التي يختلط فيها عرقنا المراق على الحجارة مع الاسمنت في جدرانها. إنها بيوت مشيدة على صدى آهاتنا وأرضياتها ملونة بدمنا القاني الذي زادته الشمس وهجا وحمرة… "لا تبع يا بنيَّ غدك ! وتمسك بأرضك وبسفوحك وبجبالك وبحمارك وببابك العتيق وببيتك القديم …أنت ابن هذه الأرض لست غازيا ولا مستعمرا ولا سالبا من أحد ملكه …ذات يوم سيثور الدم المراق وتتجمع العظام المكسورة لتطلق صرختها القوية وتعلن وجودها وتنال كل حق لها مسلوب وستتكلم الحجارة بهذه المقاطع وتروي فصولا من النضال …لا تخف ولا تتراجع" استفاق العم "سويسي"من شريط الذكريات والحوار الذي دار بخياله على أصوات الرجال يحفرون بالمعاول ويبعدون الحجارة المكدسة والتي ردمته حيا بحفرة مظلمة لكن النور الذي انبثق بقلبه أنساه الظلمة من حوله وأنساه كل شيء …أنساه حتى التفكير بالنجاة من القبر الذي دخله حيا ومضى برحلته سعيدا فروحه ستظل أبدا بحضن الجبل ترفل حذو الصخور التي طالما عاندها وغازلها … الكاتبة فاتن كشو من مجموعة رفاق الشمس صدرت فيفري 2017