بقلم: شكري بن عيسى (*) الموجة داخل النهضة أصبحت "عالية" و"متدفقة" في خصوص الدخول على خط التطبيع مع الكيان الصهيوني، والممارسات والمواقف باتت متعددة ومتنوعة الى حد مثير للريبة، وآخرها تواجد الوزير النهضوي السابق وصهر الغنوشي رفيق عبد السلام بوشلاكة جنبا الى جنب مع النائب الصهيوني "أرئيل مارغاليت" في ملتقى بالدوحة. فيض الصور التي تواردت على "جورنال" الشبكة الاجتماعية "فيسبوك"، لعضو المكتب السياسي ومستشار العلاقات الخارجية للغنوشي وهو جنبا لجنب مع النائب الصهيوني، جعلني لا أصدّق الامر وكدت اعتبر الامر مجرّد تشويه للوزير السابق النهضوي المثير للجدل، فالرجل صار في ذمته السلبية عديد العناصر المدمّرة سياسيا، ولم أكد أصدّق أنّه سيضيف اليها "فاجعة" سياسية جديدة له ولحزبه، ولكن مع الاسف اتّضح انّ الصور حقيقية وغير مزيّفة. فالمتحدّث باسم النهضة عماد خميري لم ينف الأمر، بل أكّده في تصريح لموقع "حقائق اون لاين" بتاريخ 14 نوفمبر الجاري، وبالرجوع الى التقارير الاخبارية المؤكّدة اتّضح أن الأمر حدث في قطر يومي 12 و13 نوفمبر، خلال "مؤتمر إثراء المستقبل الاقتصادي في الشرق الأوسط"، والصورة تم نشرها على صفحة النائب الاسرائيلي يوم الاثين 12 نوفمبر (كما نشرها موقع i24NEWS الاسرائيلي)، الذي دوّن بأنّ المناسبة تندرج في اطار "محاولة لتعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي جنبا إلى جنب مع الدول العربية البراغماتية".. "والهدف المشترك هو إيجاد سبل لتعزيز التعاون المشترك بين إسرائيل والعالم العربي". أمّا عبد السلام فاحتجب عن ظهوره الاعلامي المعهود ولم يعط بيانات في الخصوص، واكتفى بتصريح نقله على لسانه الخميري بنفيه معرفة تواجد اسرائيلي في المؤتمر، والأمر فيه ما فيه من اللبس والتناقض الى حد عالي، اذ لا يقبل بالمرّة أنّ من زار غزّة زمن الحصار ورفع شعارات الدفاع عن القضية يقع في وضعية مماثلة ولا ينتبه لوجود صهيوني في الجلسة، فالتونسيين حتى الهواة منهم في المجال السياسي يتحققون من حضور اسرائيليين في أي ندوات او جلسات او ملتقيات او غيرها، ويرفضون المشاركة في كل الفعاليات التي يحضرها صهاينة. ولا نظنّ الحقيقة أن عبد السلام المعمّد في الفعاليات الدولية لا يقوم بمثل هذا التحقق الروتيني، خاصة وان الملتقى ينظّم في قطر البلد الذي يفتح واسعا ابواب التطبيع، السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية والرياضية والجمعياتية والعسكرية والاستعلاماتية، وحتى الادارات والجامعات التونسية ترفض الفعاليات الدولية ومجالسة صهاينة، وجرت العادة أن تقاطع الوفود التونسية الرسمية هكذا ملتقيات، والتوجه الرسمي المعمول به يدعّم هذا التوجّه المبدئي. ويمكن أنّ بوشلاكة لم يكن يتصوّر أن يفضح النائب الاسرائيلي الامر، وينشر الصور على بروفيله مع ذلك التعليق الفاضح، والحقيقة أنّ الأمر لم يكن ليثير جدلا واسعا، لولا المواقف المتناقضة للحركة ذات المرجعية الاسلامية، التي تتبنى في نظامها الاساسي القضية الفلسطينية، ولكنها لم تعد مواقفها متجانسة مع توجهاتها زمن الدكتاتورية، لمّا كانت سباقة في التنديد والاستنكار لكل ما يصدر عن المخلوع في علاقة بالكيان الصهيوني، في حين انها صارت اليوم في حالة صمم عميق بل تبرّم من القضية، على غرار ما وقع في المؤتمر العاشر او ما حدث في اغتيال الشهيد الرمز محمد الزواري الذي انتمى في شبابه للنهضة. في حادثة اغتيال الشهيد الزواري التنصّل كان غريبا مريبا، من الغنوشي وحتى من علي العريض الذي نزّل على صفحته تدوينة طويلة لتبرير عدم تجريم التطبيع في القانون، أمّا في المؤتمر العاشر فالقضية الفلسطينية التي كانت ابرز محاور الفعاليات السياسية للنهضة سابقا فلم تكد تذكر، وصديق الغنوشي الفلسطيني مدير قناة "الحوار" عزّام التميمي وصل الى حدود التبرأ منه في الخصوص، والتميمي وصل الى خيبة كبرى من رفيقه السابق على امتداد السنوات الطوال في بريطانيا. والامر لم يعد بالمرّة حوادث عابرة معزولة منفصلة عن بعضها، والقرائن صارت قوية متعددة متظافرة في نفس الاتجاه، والفصل بين السياسي والديني او ما سمي "التخصص الوظيفي" عزّز اعتماد النهضة "الريال بوليتيك"، او "البراغماتية" التي تحدث عنها النائب العمالي الاسرائيلي في تدوينته عن المؤتمر، وجعلها تتحاشى او تقطع مع المواقف الحدّيّة السابقة، خاصة في ظل مناخ دولي واقليمي تطبعه المناهضة للاسلام السياسي، وانقسمت المواقف لديها بين "التحاشي" و"عدم التورط" الى التطبيع المباشر. و"التحاشي" و"عدم التورط" ان تجلّى بوضوح في حادثة اغتيال الزواري وايضا المؤتمر العاشر، وانطلق في الحقيقة مع رفض ادراج تجريم التطبيع في الدستور وفي القانون، وكذلك في عدم تبني خيار رفض منح الثقة لوزراء مطبعين مثل الجهيناوي وامال كربول، و"النأي بالنفس" في عرض ميشال بوجناح في قرطاج وعرض فيلم لاحد المطبّعين (زياد دويري) في الدورة الاخيرة لأيام قرطاج السينمائية، فالتطبيع المباشر كان واضحا مع النائبة ايمان بن محمد بحضورها في الجمعية البرلمانية المتوسطية وافتخارها بذلك، والدعم الذي لقيته داخل حزبها، وصولا للحضور المصوّر جنبا الى جنبا لعبد السلام مع النائب الصهيوني. الحقيقة أنّ الأخطر هو بيان عماد الخميري بان حضور القيادي النهضوي لم يكن باسم الحزب، وانما ممثلا لمركز بحوث، دون آدنى استنكار او حتى استهجان لمشاركة وزير سابق عن الحزب في مؤتمر تطبيعي مع العدوّ، وهو ما يزيد الشپهات في الصدد، ولو أن مواقف مشرّفة من نائبتين سلاف القسنطيني ومنية ابراهيم، سجلت في فعاليات حضرها صهاينة، لكنها لم ترتق الى مستوى اسقاط الاتجاه المعاكس المتسارع، ويبدو أن السلطة بصدد ابتلاع الحركة في محرقة التطبيع مع المنظومة الدولية النافذة بما فيها الكيان الصهيوني، والتطبيع مع منظومة الدولة العميقة المهيمنة داخليا برموزها وادواتها الفاسدة والمجرمة، واخرها عبر المصادقة على قانون المصالحة!! (*) قانوني وناشط حقوقي