بقلم: شكري بن عيسى (*) تنوعت منذ اسبوعين الاساءات الضمنية وحتى المباشرة من النهضة للشهيد الزواري خصوصا والقضية الفلسطينية عموما، من الحمامي الذي تطاول على كتائب القسام في "الوطنية الاولى" بعد ان حمّلها مسؤولية حماية طيارها التونسي، الى الغنوشي الذي تبرأ بصلافة من انتماء الزواري للنهضة واعتبره يمارس بشكل ما العنف في احدى تصريحاته على اذاعة "صبرة اف ام"، الى الجلاصي الذي زج بالشهيد الرمز على خط التقاتل السوري في مقال على موقع "الصباح نيوز". ولكن اساءة العريض كانت ابلغ واعمق، لاعتمادها اسلوبا "مبتكرا" ومضمونا "مميزا"، اظهر فيه "ابداعا" استثنائيا بعد طول صمت، ويبدو ان هذا هو احد "ثمرات" مركز التخطيط الاستراتيجي الذي يرأسه بعد حالة العقم التي اصابته خلال شهور عديدة. تخريجة "بارعة" بالفعل، فالنائب الثاني لرئيس الحركة، على قناة الحوار التونسي الاحد مفتتح سنة 2017، اصرّ بقوّة انه ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وكل التونسيين في رايه ضد التطبيع، لكن في المقابل لا يمكن "تقنين" منع التطبيع وتجريمه، مدعيا انه مارس العمل في الدولة و"يعرف"، مفسرا الامر بان قضية مناهضة التطبيع هي من "مجال السياسة" وليس من "مجال القانون"، والمناهضة هي "موقف سياسي" ولا يوجد شيء يدعونا لوضعه في قانون، وهذا لا يضيف شيئا للفلسطينيين ولا يفيد تونس، بل يشكل مشكلا (مع القوى الدولية) لها، وهذا تونس في غنى عنه. أوّل الاسئلة الحقيقة التي تطرح هي ما الدواعي التي تجعل العريض يصدر هذا التصريح؟ فتحليل الخطاب السياسي يتفترض وجود خلفية سياسية سواء كانت شخصية او حزبية، وهل هذا هو موقف النهضة التي انسحبت من هيئة عياض بن عاشور بدعوى ان الهيئة لم تدرج تجريم التطبيع في "العهد الجمهوري"، والتي وعدت في 2013 عند رفضها ادراج تجريم التطبيع في الدستور بان الامر مجاله القانون وسيتم عبر البرلمان!؟ وهل هو تراجع عميق للحركة ذات المرجعية الاسلامية بعد التعامل الفاتر مع القضية الفلسطينية في المؤتمر العاشر، ضمن بيئة "التوافق" الداخلي تحت سقف "التوازنات الدولية"!؟ أم ان الامر يرجع لمصلحة شخصية لرئيس الوزارء الاسبق، الذي يطمح لمستقبل سياسي "اكبر"، يحتاج لتعميد دولي ورضا الدول الفاعلة دوليا المرتبطة بالكيان الصهيوني، وسيكون بالتالي هذا الموقف "بطوليا" في ميزان هذه الاطراف النافذة، وسيسجل في الذمة الايجابية لصاحب الاحلام الوردية، حتى ينفض كل ما علق به من اخفاقات وحتى اتهامات بنيل "الضوء الاخضر" من المتحكمين في حبال السياسة الداخلية، وقد يكون ايضا في فرضية ضعيفة ربما سذاجة سياسية وتحليل مختل، لانه في المقابل لا يمكن القبول بالمسوغات المقدمة تحت عنوان آخر: المصلحة الوطنية. فالحقيقة ان "المصلحة الوطنية" التي غالبا ما يسوق تحتها السياسيين مواقفهم انتقدها بشدة المفكر ناعوم شومسكي، الذي اورد ان كل سياسات ومواقف هتلر كانت تحت هذا العنوان، وهي "ايديولوجيا تبريرية" اصبحت نمطية لتسويغ اغلب ان لم يكن كل المواقف السياسية، فما برر به العريض الحقيقة تحت هذا العنوان طغت عليه المغالطات، لان القول بان "مجال السياسة" ليس "مجال القانون" هو قول مختل في جوهره، اذ "السياسة" تنفّذ عادة عبر تقنية "القانون"، وخاصية القانون هو تنظيم الظواهر واضافة الى ذلك فله خاصية العمومية والتجرد ولكن اساسا خاصية "الالزامية"، وهو ما يميزه عن القاعدة الاخلاقية. أما القول بانه لا شيء "يدعونا" لوضع التجريم في قانون، فهذا بالفعل مجافاة للواقع وتجاهل للطلبات الشعبية والحزبية والصادرة عن المجتمع المدني وحتى من القواعد النهضوية ذاتها، واستشهاد الزواري ارتفعت معه هذه الطلبات بعد الاختراقات المسجلة في الاعلام وداخل المجتمع وحتى داخل الداخلية اثر التصريح المثير لمدير الامن السابق الحاج علي، وبعد الشبهات العميقة التي شابت الاداء الامني في واقعة الاغتيال الجبان، وبالتالي فالتجريم القانوني ستكون جدواه عالية وسيكون رادعا لمنع كل تعامل مهما كان بسيطا ومهما كان نوعه مع اطراف صهيونية تحت اي مظلة. ومن جهة اخرى فالقانون ينظم ويحدد مجال المنع ويدقق الامور، فيضبط مجالات منع التعامل من سياسية ودبلوماسية وامنية وعسكرية واستعلاماتية، اضافة للقضائية والاقتصادية والفلاحية والسياحية والمالية، وايضا الثقافية والفنية والاكاديمية والتكنولوجية، زيادة للرياضية والجمعياتية-المدنية.. وبقية المجالات الاخرى، وتحديد الجرائم والعقوبات حتى "لا يعذر جاهل بجهله للقانون"، لان غياب القانون والعقوبات جعلنا نقبل مُطبٌعين في حكومات بعد الثورة مثل وزيرة السياحة امال كربول التي كانت تتباهى بزياراتها وتعاونها الكبير مع الكيان الصهيوني، وعديد الفنانين التونسيين الذين رايناهم ينادون بحياة "بيبي ناتنياهو دون خجل"، وايضا الاسرائيليين الذي سمحت لهم وزارة العريض ذاته بزيارة تونس. وهذا يدحض ادعاء الوزير الاثقل في الاخفاقات منذ الثورة، حول ان "القانون لا يضيف شيئا"، لان ضبط الامور سيجعلها واضحة ومدققة، وهو في نفس الوقت يبعث برسالة ايجابية لاخوتنا في الثغور بان تونس بالفعل نادت ثورتها بتحرير فلسطين، وليس نفاقا وكلاما اجوفا لا ترجمة له في الواقع، وايضا مشيا على خطى الشهيد الزواري في بعث مناخ عارم لمقاومة العدو الصهيوني بكل الوسائل، وخاصة المقاطعة الشاملة والعميقة واساسا المعلنة والمقننة، التي ستوجه ضربة في العمق له ستزعزع اركانه وتقطع اذرعته خاصة في الداخل، وستجعل العدوى تمتد لكل الاقطار الاخرى، وتمنع نهائيا ان نرى يوما فتح مكتب تمثيل تجاري اسرائيلي في تونس او تحول للجهيناوي في مكتب لتونس بتل ابيب مثلما حدث سنة 1996. ولا ندري حقيقة هل يريد ان يقول لنا عضو المكتب التنفيذي "المجمّد" في التخطيط الاستراتيجي الصوري، انه على خطى زميله مهدي جمعة في مقولة "يزيونا م les grandes causes"، وانه اصبح براغماتيا يقدّم المصالح على المبادىء والقيم الكبرى، واصبح بذلك سياسيا محترفا خاصة وانه قدم لنا كل المسوّغات لاحباط تقنين تجريم التطبيع، بدعوى التنسيق مع السلطة الفلسطينية المعنية والجامعة العربية، وهي الاطراف الاكثر تطبيعا وتعاملا مع الكيان الصهيوني، والغارقة في مستنقع لم تقدر على الخروج منه، ولا ندري ان كان القيادي النهضوي يتنبأ لنا بنفس المصير المُذلّ. ولعل العريض بحث في كل النواحي ولم يترك مسوّغا الا ساقه، مدافعا بكل قوة وجهد عن "مشروعه" الذي بدونه ربما ستغرق تونس، والحماسة الحقيقة هذه المرة لم نرها في السابق عند المعني، أما "تخريجة" ان المجلس النيابي وظيفته رقابية على الحكومة، وما يمكن تنفيذه عبر سياسة الحكومة فما الداعي لتنفيذه بالتشريع، فهي بالفعل اعلى درجات التمترس في جبهة رفض التقنين بكل الطرق، فالرقابة البرلمانية فاشلة اصلا ولم تتفعّل في القضايا التي فيها برامج مكتوبة وحتى قوانين فما بالك بقضية دون قانون ينظمها، وجلسات الحوار الشهرية مع الحكومة المنظمة بالنظام الداخلي لم تتم ولم نتحدث عن لوائح اللوم وسحب الثقة "الممنوعة" اصلا، حتى نتحدث عن رقابة على امر دون "نص". والقانون المطلوب الواقع يمكن الاعتماد عليه في المحاسبة الفعّالة، وهو الضمانة الفعلية لتحقيق المقاطعة مع "اسرائيل"، سواء عبر النيابة العمومية او الاليات الادارية، او حتى عبر اثارة القضايا من قبل المواطنين والجمعيات المدنية المعنية او عبر الاعلام، وهو ما يوسّع الرقابة ويرفع الجدوى، والحكومات اليوم تتغير ولا يمكن الاعتداد بها خاصة وانها خاضعة للضغوطات الدولية، والعديد من اعضائها مطبّعين "صريحين"، اما البرلمان ففضلا عن غياب اليات الاستقصاء داخله لمتابعة حالات التطبيع، فهو تحت مقتضيات "التوافق" ممنوع من وظيفة المحاسبة الحقيقية. المقاطعة اليوم هي حماية للامن القومي الوطني، بمعناه الدقيق وبمعناه الاقتصادي والثقافي وغيره، واثارها مدمرة على الكيان الصهيوني الذي يتكبد خسائر مادية ومالية وخاصة سياسية ونفسية فادحة، والحصار يكلفه غاليا ويضعه في دوامة عميقة ويعزله عميقا، والتقنين لهذه المقاطعة عبر تجريم التطبيع هو اكبر ضمانة، والمقاطعة اليوم تتوسع في مجالاتها ولكن ايضا بين البلدان ووصلت لبريطانيا واسبانيا وحتى النرويج في 2010 عبر نقابة عمال الموانىء التي قاطعت السفن الاسرائيلية، ومبدعين وفنانين كبار مشاهير اليوم مثل "روجير وايترز" و"أرونداتي روي" و"ادواردو غاليانو" و"كين لوتش" دعموا مقاطعة "اسرائيل" الثقافية. وعار الحقيقة على تونس وكل نخبها اليوم ان تتراجع على تجريم التطبيع وترفع مبررات متهافتة، في الوقت الذي تندفع فيه عديد البلدان والمنظمات والشخصيات في كل انحاء العالم لتفعيل المقاطعة، ولا ندري ماذا سنقول لبلدان جنوبامريكا التي قاطعت وتحملت الحصار والعدوان والاختراق والهجمات الاعلامية والمآمرات، واخيرا البدان التي لولاها لما تمت ادانة الكيان الصهيوني حول الاستيطان وخاصة نيوزيلاندا وماليزيا وفينزويلا والسينغال التي تقدمت بمشروع قرار الادانة، وتحملت في سبيله السينغال قطع المساعدات الاسرائيلية!؟ تونس قدمت الشهداء العظام في سبيل تحرير فلسطين واخرها الشهيد الرمز الطيار الزواري، ومنتظر ان تظهر في المقابل اصوات الذل والهوان تدعي الخبرة والمفهومية رفعت صفة الاستشهاد عن الزاوري كما رفعت عنه صفة النبوغ وشككت في منجزه العظيم، واليوم ان تظهر اصوات الارتكاس تدعي الحكمة وامتلاك الحقيقة وانتهاج البراجماتية لتقدم طروحات الخذلان، وتدق مسمارا في الوحدة الوطنية التي بعثها الزواري باستشهاده، وتقوّض الاسس التي وضعها الشهيد الرمز من اجل ايديولوجيا فوق-حزبية تمكن من الخروج من خندق التناحر السياسي الذي وضعتنا فيه الاحزاب المتخصصة في صنع الفشل ونشر اليأس والاحباط المدمّر خاصة لشبابنا، ولكن هذه المرة المد الشعبي قوي في اتجاه تجريم التطبيع والاغلب انه سيفرض، وانه كان ميزانا للفرز اظهر حقيقة المواقف هنا وهناك!! (*) قانوني وناشط حقوقي