لاحظ بعض المواطنين هذه الأيام بوادر نقص في مادة الحليب المعلب في بعض المتاجر والفضاءات التجارية الكبرى، خصوصا بالنسبة للأنواع المعروفة وهو ما أوحى لكثيرين بامكانية تكرر الأزمة التي عاشها القطاع اواخر سنة 2007 والتي وقع «حلها» اَنذاك باللجوء الى التوريد ... وينتظر ان تتولى مصالح وزارة التجارة والصناعات التقليدية توريد كميات من الحليب لتغطية حاجيات السوق، وذلك خلال الايام القريبة القادمة. وتشير مصادر مطلعة ان الكميات التي سيقع توريدها ستكون في حدود 5 مليون لتر، وذلك في مرحلة اولى ، على ان يقع تزويد السوق تباعا من هذه المادة اذا ما اقتضت الضرورة ذلك ومعلوم ان انتاج الحليب في بلادنا ينخفض في مثل هذه الفترة لأسباب طبيعية حيث تنزل معدلات در الحليب لدى الأبقار الى مستويات دنيا، وتتواصل هذه الفترة الى ما بعد فصل الشتاء اي الى حين ولادة الابقار، حيث يرتفع الانتاج ويبلغ ذروته في فصل الربيع وخلال النصف الأول من فصل الصيف... جريدة الشروق تساءلت عن سبب هذه الظاهرة, خاصة أن بلادنا بلغت مرحلة تحقيق الاكتفاء الذاتي في مادة الحليب وذلك بانتاج يناهز مليار لتر سنويا اي بمعدل 100 لتر لكل مواطن، وهو معدل طيب مقارنة بالمعدل في الدول المجاورة.. اذن اين الاشكال؟ وما الذي يحصل سنويا حتى تتسرب الشكوك الى المواطن في مثل هذه الفترة من كل سنة حول امكانية اختفاء علب الحليب من السوق دورية منذ 1999، تاريخ الاعلان بصفة رسمية عن تحقيق بلادنا اكتفاء ذاتيا في قطاع الألبان، لا تكاد تمر سنتان متتاليتان دون ان يهتز القطاع على وقع ازمة اما خفيفة او من الحجم الثقيل وعادة ما تكون الازمة على جزئين، يكون الأول في فترة ذروة الانتاج حيث تصبح مركزيات الحليب (المصانع) وعددها حوالي 10 جاهزة لاستيعاب كامل المنتوج فتفرض شروطا يراها مربو الابقار مجحفة لقبول الحليب بجودة معينة، ويضطروا بالتالي للتخلص منه بطرق مختلفة (بيعه باسعار منخفضة لمصانع مشتقات الحليب - القاء بعض الكميات) هذه الوضعية حصلت في بعض السنوات الماضية وحصلت ايضا في نهاية ربيع 2009، حيث تذمر المنتجون ومراكز التجميع من رفض المركزيات شراء كامل الانتاج وهو ما تسبب لهم في بعض الصعوبات المادية ... أزمة بداية من سنة 2007، اختلطت الامور على المربّين ببسب أزمة الاعلاف العالمية، حيث ارتفعت تكاليف الانتاج وهو ما دفع بالدولة الى مراجعة الاسعار 4 مرات متتالية (الاسعار على مستوى الانتاج وعلى مستوى البيع للعموم) وذلك لامتصاص تأثيرات ارتفاع سعر العلف، إضافة الى تشجيعات أخرى للانتاج والخزن... وقد قوبل هذا التمشي بترحيب من المنتجين وبمضاعفة المجهود للرفع من إنتاجهم، رغم عدم اقتناعهم بسعر البيع عند الانتاج، الذي تم بلوغه وهو 550 مليما، كما قوبل أيضا بترحيب من المصنعين الذين رفعوا في طاقة الخزن والتعليب حسب ما قالوا... وقد ارتفع الانتاج فعلا في ربيع 2008، ومرت سنة 2008 دون إشكال على مستوى الانتاج، وتواصلت الحالة خلال النصف الاول من 2009، لكن ها أن نهاية 2009 تحمل معها بوادر أزمة في الافق رغم كثرة الحديث في شهر أوت الماضي عن امتلاء المخازن وعن قدرة المخزون التعديلي على تلبية كل الحاجيات /شهر رمضان وفترة نزول الانتاج من أكتوبر الى جانفي/. الصورة: اختفاء الحليب من المساحات الكبرى في سنة 2007 مخزون؟ حسب ما تقدم ذكره وحسب ما تردده الجهات الرسمية فإن قطاع الحليب والالبان يمر بفترة انتعاشة على مستوى الانتاج (450 ألف بقرة حلوب 112 ألف مربي مليار لتر حليب سنويا) وكذلك على مستوى التصنيع والتعليب (10 مصانع تعليب 10 مصانع ياغورت 20 مصنع أجبان)، إضافة الى ما تبذله الدولة من مجهودات لفائدة قطاع الالبان قالت عنها جهات رسمية إنها تناهز ال 30 مليارا من مليماتنا سنويا على كل المستويات (إنتاج وتصنيع) نذكر منها مثلا منحة ب 40 مليما شهريا عن كل لتر حليب يقع تخزينه من مارس الى جانفي (معدل 11 مليارا سنويا) ومنحة ب 2،5 مليم عن كل مسافة 1 كلم يقع قطعها لنقل 1 «بالة» علف من مناطق الشمال الى مناطق الوسط والجنوب... وغير ذلك من التشجيعات والامتيازات الجبائية الاخرى لفائدة القطاع. إذن أين «ذهب» الانتاج؟ بل أين «ذهب» المخزون الذي كثر الحديث عنه في جويلية الماضي؟ تساؤلات عديدة تجرّ وراءها تساؤلات أخرى يطرحها المواطن مثلما يطرحها المنتج (المربي) على غرار هل ان المليار لتر المنتجة سنويا ماتزال قادرة فعلا على تلبية كل الحاجيات الاستهلاكية في ظل الحديث عن ارتفاع استهلاك التونسي من مادة الحليب ومشتقاته بنسق لم تقرأ له الجهات الرسمية حسابا ولابدّ بالتالي من التفكير في مزيد رفع طاقة الانتاج وزيادة عدد المربين وعدد القطيع؟ أم أن عدد مصانع التعليب (10) «تجاوزته الأحداث» ولم يعد قادرا على القيام بدوره في استيعاب كامل الانتاج وخزنه وتعليبه وتوفيره للمستهلك على مدار العام وهو ما يدفع الى ضرورة التفكير في بعث مصانع أخرى تكون قادرة على استيعاب كامل الانتاج في الربيع وتخزينه حتى لا يضطر المنتجون الى التخلص من انتاجهم في فترة الذروة بطرق مختلفة منها الإلقاء بالحليب في الطبيعة؟ مشتقات.. وتصدير!! تساؤل آخر يتردد عادة بين صفوف المربين وحتى المواطنين وهو: هل صحيح ان النصيب الأوفر من الانتاج يقع توجيهه نحو الحليب المعلّب (حليب الشراب) مثلما تفرض الدولة ذلك بل وتشجع عليه ماديا؟ أم أن «ماكينة» المشتقات (الياغورت والأجبان والحليب المعطّر) إضافة الى «ماكينة» المرطبات والحلويات اصبحت تستقطب أغلب الانتاج نظرا لمردوديتها التجارية التي تفوق بكثير مردودية الحليب المعلّب، فلم تترك بالتالي لحليب الشرب سوى النزر القليل، وكانت النتيجة ان قلّ العرض من هذه المادة في السوق مقابل فيض كبير وأصناف متعددة من المشتقات اصبحت تكتسح ثلاجات المتاجر والواجهات البلورية.. ويستدل أحد المختصين على وجاهة هذه الفرضية بأن بلادنا لم تسجّل أبدا وفي اي فترة من السنة أزمة نقص في مشتقات الحليب بأنواعها أو في المرطبات والحلويات!! وهذا ما يفرض على الجهات الرسمية فرض نظام صارم لمراقبة المصانع في تطبيق توصيات الدولة بإعطاء الاولوية لحليب الشرب. أما الجانب الآخر من الحديث المتداول فيتعلق بالتصدير، اذ يقول البعض ان ما يحصل سنويا من أزمات في حليب الشرب مرده على ما يبدو إقدام بعض المصانع على تصدير جانب من انتاجها المعلّب الى دول مجاورة لأن المردودية التجارية للأسواق الخارجية ارفع من السوق المحلية ومهما كانت الأسباب الحقيقية للنقص في توفّر الحليب، سواء على مستوى الانتاج (نقص في عدد المربين نقص في القطيع) أم على مستوى التصنيع (نقص في عدد المصانع والمخازن تحويل وجهة الانتاج نحو المشتقات) فإن الأمر بات يتطلب اليوم حلاّ جذريا يلمّ بكل الجوانب حتى لا يشتكي مواطن واحد من بلد المليار لتر حليب من غياب حليب الشرب عن منزله. عن الشروق