محمد الحمّار يَنقاد الكثير من المسلمين إلى الاعتقاد بأنّ الفلسفة والتفلسف نقيضان للدين أو معاديان له ويذهبون أحيانا إلى تكفير الفلسفة والفلاسفة، بينما الدين الإسلامي يحضّ على التفكير والتدبر وهُما صنفان من التفلسف. كما أنّ التاريخ الإسلامي عرَف العديد من الفلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد ولم يكن ذلك الاعتقاد في التناقض موجودا أصلاً. في ضوء هذا، سوف أشير إلى مأْتَى ذلك الاعتقاد الخاطئ، ثم أشرح قيمة الفلسفة والتفلسف في حياة مجتمعاتنا اليوم ومدى تأثير ذلك الاعتقاد على حياة المسلمين، ومن ثمة أبيّن كيف أنّ القرآن العظيم منفتحٌ على الفلسفة، سَبّاقٌ ومُستشرفٌ لها. ... أول وبالذات تجدر الإشارة إلى أنّ تناقض الفلسفة مع الدين فكرة ليست بالإسلامية وإنما روَّج لها الفكر الإلحادي الغربي بما أنّ الإلحاد مبنيّ على الشك وهذا ما يتناقض مع الدين وهو المَبني على اليقين بينما الدين الإسلامي لا ينكر أبدا قيمة العقل بل يدعو لإعمال العقل ولو كان ذلك للتثبت في أمرٍ يقيني. في سياق آخر، يوجدُ اليوم كلٌّ من الفلسفة والتفلسف في مجتمعاتنا المسلمة، بصفتهما عَملا بشريا عقليا في متناول كل الناس وليس حكرا على الفلاسفة، في وضعٍ مُزرٍ حيث إنّ مكونات نُخبنا المثقفة، من باب أولى وأحرى، على الرغم من أنهم درسوا الفلسفة وفيهم مَن تعمقَ في دراستها حتى أنهم صاروا يحفظون عن ظهر قَلب مقولات عمالقة الفلاسفة الكونيين، قدامى كانوا أم معاصرين، من أمثال سقراط وأرسطو أو ديكارت أو هيجل أو كارل بوبر، ويستشهدون بها ويِتبَنّون مناهِج هؤلاء ، إلا أنك ترى تفكيرهم في أغلب الأحيان غير مندمجٍ مع البيئة الثقافية للمجتمع المسلم. هل تفكيرهم، أي تفلسفهم، في مَحَله؟ لا أحد ينكر أنّ مستواهم يبلغ أحيانا درجة الامتياز. لكنّ هذا التألق يكاد ينحصر فقط في مجال المعرفة الحاصلة. أمّا من حيثُ توليد معرفة جديدة، وهي الضرورية لحلّ مشكلات المسلمين اليوم، فيبقى تفكيرهُم ناقصا. والسبب في ذلك هو أنّ تَوَجهَهُم العام في التفكير يبقى مُستلِبا للآخر وقَلَّ ونَدَر أن حظي هذا التوجه بأيّة نقطة ارتكاز على أرض الواقع، واقعِ مجتمعهم. يبقى إذَن توجههم غير متجَذرٍ في أنسجة الثقافة والتاريخ لمجتمعهم رغم مَظهَره الانفتاحي. لَكَأنّ مكونات الفئة المتفلسفة من بين نخبنا المثقفة، بانتهاجها وِجهَة متباعدة على الوِجهة التي يرغب فيها المجتمع، قد رفعَت "حق" الفيتو أمام أصوات مواطنيها المُنادين بفَكّ الحصار على التفكير المتلائم مع مرجعيات المجتمع والمُحقِّق لأهدافه الحضارية. بالفعل قد أفرزَ ذلك الفيتو الفلسفي الفئوي المتميّز باحتكار الفلسفة والتفلسف وحصْرها في الصالونات، مقرونا بالجهل العام، مجتمعا مؤْمنا بدينه لكنه جامد. وحتى إن تَحَرك سيتمُّ استغلاله من قِبل فئة من صِنفٍ لا يقل خطورة، وأعني مَن بأيديهم السلاح الفتاك بالشعوب الذي يسميه نعوم تشومسكي "القوة المُركّزة" (مال مع سياسة) والتي تُعرفُ إعلاميّا بتسميات مثل "لوبيات المال والأعمال ' أو "عصابات التهريب"، وشعبيا بعبارة "الحيتان". إنّ ما يجرى إلى هذا اليوم في بلد مثل بلدنا هو استغلال عرق جبين القوة العاملة والطبقات الاجتماعية الضعيفة بعناوين عدة منها الأداءات والإتاوات والتوزيع غير العادل للثروة والتفريط في الثروات الطبيعية للقوى الإمبريالية بأبخس الأثمان. بينما لو رُفع الحصار عن الفلسفة والتفلسف، أعني عن العقل والتفكير، لَما وصلت حالة البلاد إلى ما هي عليه الآن. التفلسف هو اجتهاد في الفكر وفي الحياة قد يصيب بفضله المتفلسف، فلَهُ أجران اثنان، وقد يخطئ فلَهُ أجرٌ واحد. أليس الرسول الأعظم مَن أصدر هذا الحكم في حق المُصيب و في حق المخطئ؟ أم أنّ الخطأ مقصود به الخطأ في تطبيق الدين دون سواه مِن تطبيقٍ لسُنن ونواميس الحياة ولو كانت عارية عن الدين والتديّن، وفي هاته الحالة نكون قد أهملنا قوله صلى الله عليه وسلم "أنتم أدرَى بشؤون دنياكم"؟ في ضوء تلكم الأوضاع الفكرية الرديئة وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية المأساوية، حَريّ بكل من بقيَت لديه ذرةٌ من العزم على المقاومة الفكرية أن يحاول طرحَ موضوع التفكير عموما والتفلسف على وَجه الخصوص على مِحك القرآن العظيم والحديث النبوي، المرجَعَين الأمّ لكل تفكير سليم، عسى أن يتراءى تبعا لذلك بصيصٌ من الأمل في استرجاع قوة العقل لدى المجتمع. في السياق نفسه، أعتقد أنّ القرآن الكريم والحديث النبوي يوجَدان في وَضعِ انفتاح مبدئي على كل المقاربات الفلسفية من حيثُ سبَقُهما على العلم و استشرافُهما لِما يُفَكر فيه وما يفعَله البشر في كل العصور وفي كل الثقافات والحضارات والبلدان. لكنّ الانفتاح والسبَق والاستشراف لا تعني تزكية كل نشاط فلسفي وكافة مخرجات التفلسف. تاريخيا، لقد قام أولي الأمر الأوائل من المسلمين، انطلاقا من فَهمِهم للنص الديني، بدحضِ أية فكرة أو مقاربة أو سلوكيات من صُلب التفلسف تكون ناجمة عن الشرك بالله جلّ وعلا، والأمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي عمّا سُمّي بالزندقة والهرطقة والسفسطائية وغيرها. بالتالي فانّ ما يرفضه الإسلام هو الفكرة، كأنْ يخلُص فيلسوفٌ إلى أنّ الله غير موجود أو أنّ الانسان لن يُبعث من جديد ولن يُحاسَب بعد موته أو أنّ زنى المُحرمات جائز أو أنّ الربا ضروري للتنمية الاقتصادية، وما إلى ذلك. فهذه العينات المرفوضة إسلاميا إنما هي أفكار ومواقفَ وسلوكيات، وليست مناهجَ. على عكس ذلك، لقد اتسم فلاسفة المسلمين العِظام بالحكمة، وهي رديفة الفلسفة، وطالما أنّ الحكمة مثَمَّنة في القرآن الكريم، فلا ضير في أنهم سخّروا الفلسفة في سبيل البحث عن حقائق الأمور وكُنهٍها. وهذا مما يندرج في إطار تثمين القرآن الكريم للعقل والحثّ على تفعيل ما يستوجبه التفكير من ملكات مثل التمييز بين الأشياء والظواهر والحُكم والاكتشاف والابتكار. وكم من آية قرآنية تتضمن التوصية بالتفكير على غرار قوله تعالى "أَفَلاَ تَتًفَكَّرُون" (الأنعام: 50) و " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " (الجاثية: 13).إذن فالنظرة الإسلامية الإيجابية تجاه الفلسفة تقبل هذه الأخيرة لا على أنها أفكارٌ وإنما لكونها منهاجا أو مجموعة مناهجٍ للتفكير. والمنهاج في الفلسفة ليس الفكرة في الفلسفة، كما سنرى لاحقا. ذلك أنه من المعلوم أن لن تغِيب شاردة ولا وارده عن عِلم الخالق سبحانه وتعالى وما ضَمّنه في كتابه العزيز و ما كمّله نبيّه الأعظم في الحديث، وبالتالي من واجب المسلم أن يتبيّن مضامين الفكر البشري، الفلسفي الكوني، ويحكم عليها لكونها إما متعارضة مع فكر القرآن والحديث وإما منسجمة أو متقاطعة معه. وهذا يعني أنّ إفراز الفلسفة لمواقف وأفكار متناقضة مع الإسلام، بما أنّ التمعن فيها والحكم عليها بِعيون مؤمنة إنما هو أمرٌ موكول للمفكر المسلم المؤمن، فهذا ليس إقرارا بالتناقض المبدئي بين الفلسفة والإسلام إنما هو تناقض قد يحصل حتى بين فكرة وأخرى من نفس المقاربة، سواء كانت فلسفية أو دينية بل وحتى من نفس المدرسة سواء كانت غير إسلامية أو إسلامية. كما أنه، عدا المدارس والمقاربات، من الطبيعي جدا أن نعثر على التناقص حتى بين مفكرين ضالعين في الإسلام. كنتيجة لهذا، وفي سياق البحث عن الانسجام أو التشابه أو التقاطع بين الفلسفة والإسلام، لم تعُد الفكرة (كما كان الشأن في سياق التفتيش عن التناقض بين فكرة من الفلسفة وفكرة من الإسلام) هي مِحور التمعن والحُكم، بل إنّ المنهاج المُوصل إلى توليد الأفكار هو المحور. إن ثبت أنّ منهاجا محسوبا على الفلسفة منسجمٌ مع المنهاج القرآني فَيا حَبذا، حتى وإن كانت الفكرة أو الأفكار المتولدة منه متناقضة مع الإسلام، لأنّ في نهاية المطاف، على المسلم المؤمن دون سواه أن يتجنب الفكرة المتناقضة مع دينه، لكن من الخطأ أن يتجنب هذا المسلم المؤمن المنهاجَ الفلسفي المنسجمَ مع الإسلام بدعوى تعارض الفكرة مع الإسلام. أليس الإسلام معروفا عبر التاريخ بأنه منهاجٌ للعبادة وللتدين وللحياة أكثر منه مدونةَ أفكار؟ حيث إنّ الأفكار التي يشتمل عليها الكتاب العزيز انبثقَت عن المنهاج الذي هي فيه، وليس العكس صحيحا. فلنأخذ من الفلسفة الإغريقية مثالين اثنين مختلفَين، ونرى أولا هل أنّ هذا الاختلاف يدلّ على أنّ أحد المِنهاجَين مصيبٌ (إسلاميا) والآخر مُخطئ (إسلاميا) وبالتالي يُخفي تناقضا مع الإسلام، وثانيا هل أنّ الإسلام يؤكد هذا الاختلاف فيقبلُ المنهاجَين أم أنه يحتويهما فيجعلَهُما مؤهَّلَين للتزكية من طرف علماء ومفكري المسلمين. في هذا الصدد، لم يكن أفلاطون وأرسطو على نفس الخط في تعريف الخير والشر. بينما أفلاطون يُسلِم بأنّ ثمة مَنبع للخِير ومَنبع للشر، بأنّ الخير خيرٌ والشر شرٌّ، فلا الخيرُ يصبح شرا و لا الشرُّ يصبح خيرا، بينما أرسطو ينطلق من قناعة يكون بمقتضاها الخيرُ قابلا أن يكون شرا والشر قابلا أن يتحَول إلى خير. فالأمر مرتبط بالظروف والملابسات والزمان والمكان وما إلى ذلك من عوامل. أمام هذا المثال، حريٌّ بنا كمسلمين أن نتمعّن في الأمر ثم نحكُم هل أحد المنهاجين أقرب للإسلام، أم كلاهما، أم لا أحد منهما. هذا يستوجب التذكير بأنّ ما جَرَت عليه العادة بخصوص تناوُلِ مثالٍ كهذا (بعد القطيعة مع فكر فلاسفة الإسلام مثل ابن سينا وابن رُشد و وغيرهما ) هو أن كل واحد من فلاسفتنا ومفكرينا يجذب اللحاف نحوه، ما يعني أنّ كل واحد منهم يفهَم أفلاطون وأرسطو وغيرهما دونما أيِّ تماسٍ أو تقاطعٍ يُذكَر مع فكر الإسلام. والحال أنّه لو حاولنا البحث عن تشابه أو توازٍ، وربما حتى عن انسجامٍ أو تقاطعٍ أو تناظرٍ أو تطابقٍ، بين المنهاجَين الفلسفيّين الكونيين المذكورَين من جهة والفكر الإسلامي من جهة أخرى ، سوف نرى أنّ أفلاطون وأرسطو كِلاهما على حقّ وكِلاهما مفهومٌ إذا ما مرّرناهما عبر مجهر الإسلام: أفلاطون واضح مثل وضوح الحديث الشريف: "إنّ الحَلالَ بَيِّنٌ وإنّ الحَرامَ بَيِّنٌ" (منطقيا الخيرُ حلال و الحرامُ شر). وبخصوص أرسطو، فلمختلف في منهاجه مقارنة بمنهاج أرسطو هو أنه يتسرب إلى داخل تفاصيل التفاصيل المُكونة للخير وتلك المُكونة للشر إلى أن تظهرَ شرورٌ في الخير وخيراتٌ في الشر، و هكذا يكون منهاجه هو الآخر متقاطعا أيضا مع فكر الإسلام، مثلما نرى في الشطر الثاني من الحديث النبوي "إنّ الحَلالَ بَيِّنٌ وإنّ الحَرامَ بَيِّنٌ وبينهما أمورٌ مشتبهات"، ومثلما بتبين لنا من خلال الآيتين الكريمتين "وَ عَسَى أن تَكْرَهُوا شَيئًا وَهوَ خَيْرٌ لَكُم وعَسَى أن تُحِبّوا شَيئًا وهو شَرٌّ لَكُم واللَّهُ يَعْلَمُ و أَنْتُم لاَ تَعلَمُون" (البقرة: 216) و "لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم" (النور:11)، صدق الله العظيم. أختم بالقول إنّ اختلاف المناهج في الدين ("لِكُلٍّ جَعَلْنَا شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا"- المائدة: 48) لا يمنع الوصول إلى نفس النتيجة الدينية (الإيمان بالله وواجب عبادته). كما أنّ اختلاف المناهج في الدنيا على غرار المدارس الفلسفية العديدة والمتنوعة لا يحُول دون التوَصل إلى النتيجة نفسها ألا وهي الظفر بالوسائل التي تُمَكن الانسان من تحقيق السعادة. وفي ضوء الأسباب والملابسات التي شرحتُها أعتقد أنّ الإسلام الحنيف، قرآنا وحديثا، يستوعب المناهج الفلسفية بالقبول مهما كانت مختلفة لكنه يلفَظُ الفكرة السيّئة الحمّالة للشرك بالخالق أو المُحَرّضة على الفساد. إلا أنّه من التجني، في المقابل، أن ينقاد المسلم، سواء أكان متخصصا في علوم الدين أو مفكرا أو من عموم المثقفين، أن ينقاد إلى رفض أو تكفير الفلسفة والحال أنه لم يفهَمها. بل بالعكس، سوف يزداد المسلم فهمًا للإسلام في حالِ فهمِه لكلّ إنتاج رمزي بشري، بما فيه الإنتاج الفلسفي، وعلى الأخص في حالِ تمييزِهِ بين مكونات هذا الإنتاج، إن هي قابلة للاستيعاب أم قابلة للنقد أو الدحض أو التجنب. تابعونا على ڤوڤل للأخبار