ثمة أسئلة تخامرني دائما وتتبادر إلى ذهني وتلح علي وتؤرقني: هل نحن شعب نحب حرية التعبير ونعشقها ونحترمها ونقدسها؟! هل نحن شعب نؤمن بالنقد إيمانا حقيقيا ونطالب به مطالبة مستمرة قولا وفعلا؟! هل نحن شعب نقبل بالرأي الآخر؟! هل نحن شعب من دعاة أن الاختلاف في الرأي رحمة وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ومن المؤمنين بهذا المبدأ؟! هل بالضرورة أن إذا اختلف أحدهم معك في رأي أو في موقف أو في تقييم لأمر ما هو عدو لك يريد بك شرا و"يسالك مغرفة دقيق" ويريد "أن يضع العصي في الريوات"؟! هل بالضرورة أن من يقدم رأيه فيك وفي عملك بكل صراحة بعيدا عن المجاملة والدبلوماسية المقيتة هو يقصد إهانتك واحتقارك والإساءة إليك؟!... إن المعروف عنا أننا شعب نطالب باستمرار وبكل إصرار بحرية الرأي والتعبير وإتاحة الفرصة الكاملة لنقد مختلف الظواهر السلبية التي تنكشف لنا في واقعنا وتثمين الظواهر الإيجابية التي تتراءى لنا... نحن شعب نطالب بمزيد حرية التعبير "كالبحر الذي يطلب الزيادة ولا يشبع" حتى نبرز آراءنا ومواقفنا حول كل الأشياء والأمور... نحن شعب نحتج إن لم يُسمح لنا بحرية التعبير ومُنعنا من هذا الحق على جميع الأصعدة وفي جميع المستويات والدرجات... نحتج بشدة وقوة وعنف ونعبر عن ذلك صراحة.... نحن شعب نتبجح بأننا نحب حرية التعبير كما لا يحبها أحد ... كثيرون هم الذين يسمحون لأنفسهم بأن ينقدوا كل الظواهر وهم جالسون بالمقاهي وهم جالسون على الربوة... وهم في بيوتهم يشاهدون التلفزيون... وهم في مقرات عملهم... وهم يركبون الحافلات... وهم يستقلون سيارات الأجرة... وهم يقودون سياراتهم... وهم يسيرون في الطريق... وهم على مدرجات الملاعب يشاهدون المباريات الرياضية... وهم حاضرون في الاجتماعات العامة والمؤتمرات والتظاهرات الكبرى... النقد متاح لهم ويوفرونه لأنفسهم ويضمنونه ويستحضرونه بكل الطرق وفي كل آن وحين وفي كل مكان: "شبيك لبيك... النقد يجيك... من الشرق يجيك... من الغرب يجيك"... يضربون الطاولات بقبضة أيديهم بكل قوة وعنف... تسمع أصواتهم مزلزلة تكاد تهز المكان تطالب بهذا وتنتقد ذاك بشدة وتدعو إلى إزالة هذه وتعبر عن رفضها لتلك وتصر على محاسبة أولئك... من العادي جدا أن يتصلوا بك ويطلبوا منك ويقترحوا عليك ويدعوك إلى أن تكتب لهم عن تلك الظاهرة وأن تنتقد ذلك السلوك وأن تعبر عن رفضك لذلك القرار... هم يدفعون بك إلى أن تنقد كل شيء يزعجهم ولا يروق لهم ويمثل إشكالا كبيرا أمامهم.... هم يشجعون ويباركون كل إثارة لقضية ما تعنيهم من قريب وكل إشارة إلى مشكلة ما أرقتهم وكل حديث عن خطر معين يحدق ويضر بهم... هم يصفقون إذا ما سمعوا أو لاحظوا أن هناك كشفا لسلبيات ونقائص في مؤسسة أو هيكل ما.... ولكن... ما أعظم حرف الاستدراك "لكن" وما أحوجنا إلى استعماله واللجوء إليه في كل ما نكتب... لنضع سطرا أحمر غليظا تحت هذا الحرف العملاق... ولكن... هم يسقطون في أول امتحان لحرية التعبير بالضربة القاضية... فتراهم ينقدون وينقدون ويعبرون ويعبرون إذا كان الأمر لا يتصل بهم، لا يتصل بكل واحد منهم شخصيا... هم يفعلون كل ذلك إذا كان النقد الصادر عن الناقد أي ناقد سواء أكان كاتبا أم متكلما لا يمس منهم اللحمة الحية، إذا لم يكونوا هم أنفسهم محورا لذلك النقد لأنهم ببساطة شديدة يؤمنون إيمان العجائز بأن "الضربة في غير جنبي كأنها في الحيط"... هو يريدون منك أن تنقد كل شيء بعيدا عنهم، ولكنك إذا قصدتهم وولجت مناطق نفوذهم واختصاصهم وكشفت سلبياتهم في إطار عام لا يمسهم شخصيا فما عليك إلا أن تغلق فاك قسرا وتكف عن الكلام المباح منذ الصباح أي قبل أن تواصل، وعليك أن تلتزم الصمت الكامل المطبق، أو أن تسمع ما لا يرضيك فتهيئ نفسك لوابل من الشتائم والتهم الجاهزة التي ستنهال عليك من كل حدب وصوب، هذا إذا لم يقع تهديدك بأشكال مختلفة وإذا لم تتدخل أطراف أخرى في الحكاية وتحرض المنقود ( حتى وإن كان النقد متصلا بظاهرة عامة ولا يعنيه شخصيا وليس فيه إشارة مباشرة له أو لغيره) على أن يتصدى لك و"يعمل بك نازلة"، فيقولون له في تحريض ظاهر: "اشكي بيه... ماتسيبوش..."!! إذا طالهم النقد كأشخاص من قريب أو من بعيد في مواقع عملهم أو في سلوكهم وأفكارهم ومواقفهم وفي ما يحبون ويعشقون فستسمعهم يقدمون بكل حرص المحاضرات تلو المحاضرات حول أخلاقيات النقد وشروطه، وسيدعون أنهم يقبلون بالنقد بكل روح رياضية (ماتت أو انتحرت الروح الرياضية منذ سنوات ولم تعد موجودة بين أهلها فما بالك خارج أهلها) ولكن بشرط أن يكون نقدا بناء ولا نقدا هداما، والنقد البناء في مفهومهم هو تمجيدهم ومدحهم والإشادة بأعمالهم وخصالهم، أما النقد الهدام في رأيهم فما هو إلا الإشارة إلى النقائص والتركيز على السليبات... وإذا لم يعجبهم ما صدر في شأنهم من نقد فسيتحدثون عن النقد والانتقاد وعن الفروق المعنوية الكبيرة بينهما، بينما إذا سألت عن تلك الفروق فلن تظفر بجواب... وها أني تطوعت لهم وبحثت عن معنى نقد وانتقد، فلقد جاء في لسان العرب أن "نقدتَ الدراهمَ وانتقدتَها إذا أخرجتَ منها الزيف"، ولقد ورد في منجد اللغة والأعلام أن من "نقدَ الكلامَ: أظهر ما به من العيوب والمحاسن ونفس الشيء بالنسبة إلى انتقد الكلام: أظهر عيوبه ومحاسنه"، وهكذا فإن لا فرق كبيرا بين نقد وانتقد باستثناء الفرق الناتج عن الوزن لأن وزن نقد هو فعل وانتقد هو افتعل، ومن معاني افتعل اتخاذ الفاعل المفعول لنفسه مثل اختار وادخر واجتنى وانتقد، وعليه فإن من معاني انتقد الدراهم أي قبضها (في لسان العرب)... يريدون أن يقع نقد البلدية والصوناد والستاغ والأوناس والكنام وشركة النقل والإدارات الجهوية وجامعة الكرة والأندية الرياضية والإذاعة والتلفزيون والمستشفيات والوزارات وغيرها من المؤسسات والهياكل، ويفرحون لذلك كثيرا كثيرا ويثمنون ذلك كثيرا كثيرا، أما يوم توجه إليهم النقد مباشرة إما بصفة شخصية وإما لأنهم على علاقة مباشرة بتلك المؤسسة المنقودة فإنك ستسمع ما تكره وسيعتبرونك أنك تشوه سمعتهم وأنك تتآمر عليهم وأنك "تصطاد في المية العكرة" ويقولون لك بكل صراحة: "برة اتلهى بروحك واتلهى بدارك...!!" ستشعر أنهم يريدون أن يقنعوك أنهم "طز حكمة في كل شيء"، وستفهم أنهم يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة وأنت أمامهم قزم لا تساوي شيئا، تكاد تسمع الواحد منهم يقول: أنا ربكم الأعلى في ميداني واختصاصي ... أحباء الفرق الرياضية في بلادنا يتابعون كل صغيرة وكبيرة عن كل الجمعيات ويباركون النقد الموجه إليها وهم بدورهم لا يتوانون عن توجيه النقد اللاذع لها والساخر في بعض الأحيان، ولكن أحباء كل فريق يحتجون احتجاجا صارما إذا ما لاحظوا أن وسائل الإعلام تهتم بأنديتهم وتتوجه إليها بالنقد ويقولون إننا نرفض نشر غسيل النادي عبر وسائل الإعلام التي تصبح متهمة بالتآمر على ذلك الفريق، ويتهجمون على من تسول له نفسه من أصحاب الرأي كشف السلبيات والنقائص في ناديهم المفضل... المغني أو الممثل أو اللاعب أو المسؤول في ناد رياضي أو المدرب يرفض أي نقد يوجه إليه، وسيحدثك عن مؤامرة تحاك ضده ويخبرك أنه يعرف من يحرك خيوط تلك المؤامرة وسيكشفه في الوقت المناسب، ثم بعد ذلك سيفسر لك الفرق بين النقد البناء والنقد الهدام... وغير هذه الأمثلة كثيرة في حياتنا اليومية.... والغريب في الأمر أن أكثر المؤسسات والهياكل الموجودة ببلادنا والتي تكون على علاقة يومية وقريبة من المواطن تقبل بالنقد الموجه إليها بصدر رحب وتأخذ مأخذ الجد كل الملاحظات التي تصلها وتسعى إلى معالجة كل النقائص التي تخصها وتقع الإشارة إليها وتوضح ما كان غير واضح، ولا نراها تنتفض وتثور على أصحاب الرأي والناقدين والمتحدثين عن سلبيات داخلها، بينما جرب وانقد جارك أو قريبك أو صديقك أو ابن مدينتك أو زميلك في العمل في أي مسألة تخصه في آرائه أو عمله أو أحد أفراد عائلته فإنه سيسمعك ما تكره أو سيقطع علاقته بك تدريجيا وإذا اعترضك في الطريق أو في أي مكان آخر فإنه يتظاهر بأنه لم يرك أو أنه لا يعرفك ويحول نظره يمينا أو شمالا أو إلى فوق أو إلى تحت... ولذا فنحن شعب نحب قول الحق ولكن ليس على أنفسنا، ونحب حرية التعبير ولكن إذا كانت لنا وليست علينا، ونحب النقد ولكن بصفتنا ناقدين ولا منقودين، ونحب الرأي الآخر ولكن إذا كان مرادفا ومساويا لآرائنا لأن كل واحد فينا يعتقد اعتقادا راسخا أنه يمتلك الحقيقة الكاملة، بينما مازلنا لم نتعلم بعد أن للحقيقة وجوها كثيرة وأن لا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة وأن رأيك الذي تعتقده صوابا يحتمل الخطأ وأن رأيي الذي تعتقده خطأ يحتمل الصواب...!! ي . و