لما قامت الثورة وسقط النّظام السّابق الذي طالما كبّل الأفواه وشلّ الأيدي بجبروته فرحنا وقلنا مرحبا بحرّية الفكر والتعبير.. تخلّصنا من أحد أقدس "التابوهات" التي يحرّم الحديث عنها ويجرّم كل من يتجاوز الخطوط الحمراء.. وأخيرا سنتحدث عن السّاسة والسّياسية في المقاهي والشوارع والمؤسّسات العمومية دون خوف.. في انتظار أن نتخلص من باقي "التابوهات" ويصبح الحديث عنها مباحا في إطار الاحترام المتبادل طبعا.. ولكن ما راعنا إلا بروز "تابو" جديد يتّهم من يتحدث عنه بغير ما يقوله الجميع بعداوة الثورة وسبّ الشهداء وبأنه تجمعي ومن فلول النظام البائد وتهم أخرى تصنّف ضمن المضحكات المبكيات.. هذا "التابو" هو "المرحوم محمد البوعزيزي".. إيّاك وأن تقول أنه انتحر بل هو استشهد وفي اعتقادي من الغباء مجرّد طرح سؤال هل هو شهيد أم لا لأنه لا يعرف الغيب إلا الله وحده سبحانه.. وهذا السّيل من الفتاوى التي يقدّمها أناس عاديون والإعجاب حتى التقديس ساهم إلى حدّ ما في تشجيع جملة من أصحاب النّفوس الضّعيفة والشّخصيات الهشّة على الانتحار حرقا -بما أنه أصبح نجومية- عوض مواجهة الواقع والمحاربة لأجل البقاء.. إياّك أن تقول أن عون التراتيب فادية حمدي لم تصفعه وأن هناك شهود عيان على ذلك ولكن لم تعطى لهم الفرصة لتقديم شهادتهم فالمسئولون حينها كانوا يبحثون عن كبش فداء ليمتصوا به غضب الشارع وهي ضحية تملصهم من مسؤولياتهم.. إيّاك أن تقول أن فادية ثارت لكرامتها عندما قام المرحوم بخدش حيائها بكلمات سوقية -لو قيلت لأي امرأة في الشارع لصفعت القائل- فقامت بدفعه فثار هو الآخر وحدث ما حدث.. فهل يعقل أن تدفع أو حتى تصفع امرأة رجلا في وسط مثل سيدي بوزيد دون سبب.. لمجرد أنها صاحبة سلطة.. فلماذا البوعزيزي وليس غيره من الذين تتعامل معهم يوميا..؟ إيّاك أن تقول أن من أبسط حقوق هذه المرأة -التي دخلت منذ أيام في إضراب عن الطّعام- أن توجّه لها تهمة لا أن تبقى تحت رهن الإيقاف لأشهر دون أن توجّه لها تهمة واضحة وتقدّم للعدالة وتدافع عن نفسها كأي مواطن تونسي.. إيّاك أن تقول إن وجبت محاسبة فادية حمدي فيجب محاسبتها على ذنب اقترفته لا أن تحاسب على جريمة القتل العمد فكم من فرد ظلم وأهان حتى دفع آخر للانتحار فهل عوقب بتهمة القتل العمد..؟ إيّاك أن تقول أنه من الظّلم أن تختزل سنوات النّضال علنا وسرّا.. في حادثة انتحار فردية.. إيّاك أن تقول أنه من الظّلم أن ننسى كلّ الذين قبعوا في دهاليز الداخلية وتلقوا ألوانا من العذاب والذين حوربوا في رزقهم ونفوا للخارج لأنهم انتموا للمعارضة ولا نخلّد إلا اسم البوعزيزي.. إيّاك أن تقول أنه من الظّلم أن ننسى تضحيات من قهروا الخوف في سيدي بوزيد والقصرين وقفصة وصفاقس وكامل الولايات إلى أن بلغ السّيل العاصمة و ننسب الثورة لرجل واحد.. أو من الظلم أن تمنح عائلة البوعزيزي الملايين والمجد والشهرة ولا يمنح من تعذبوا ل23 سنة وأكثر ومن سقطوا برصاص أعوان الداخلية إلا ملاليم وابتسامات صفراء.. وان حدث وقلت فانتظر سيلا عارما من السبّ والشّتم واللّعنات من كلّ من هبّ ودبّ.. انتظر طعنا في وطنيتك وأخلاقك وحتى شرفك.. ففي تونس العهد الجديد يمكنك أن تنتقد أداء الحكومة وتطالب بإقالتها وتنصّب نفسك قاضيا ومحللا سياسيا واقتصاديا ولكن من الجنون أن تتحدث عن حادثة الصفع أو عن سيرة المرحوم أو فاديه حمدي.. لا نريد أن تلجمنا ديكتاتورية الثورة وتخنق الكلمات في حلوقنا كما فعل بن علي وان كان الأمر كذلك فيا خيبة المسعى.. ملاحظة : لم أقصد أبدا من خلال ما كتبت الإساءة للمرحوم البوعزيزي وليس لي أي صالح في ذلك ولكن أكره "التابوهات" وإن كنّا مصابين بداء الصّمت في السّابق فإننا عاهدنا أنفسنا بعد أن حرّرنا هذا التغيير أن لن نخرس ثانية.. مديحة بن محمود First published on 04/04/2011