عارف المعالج ناشط سياسي ونقابي أن المتتبع لنسق تطور الأحداث في الفترة الأخيرة يوقن بأن عدد ممن بحسب على المعارضة اليسارية والديمقراطية وكأنها قد فقدت الأمل في أي تغيير ديمقراطي بمكن أن يفرز إزاحة النهضة عن السلطة في المحطة الانتخابية القادمة. فقد دفعت خيبة أمل بعض الأطراف للتصريح بأن ما شهدته تونس لم يكن بثورة، وهو ما دفع أحد الرموز الماركسية لتذكير رفاقه بأن الثورة الشعبية الحقيقية لا يمكن أن تقوم إلا بتأجيج الصراع الطبقي والاجتماعي، وقد وجد هؤلاء في الاتحاد العام التونسي للشغل - الذي أفرز مؤتمره الأخير قيادات تنتمي إلى جهات حزبية يسارية معروفة - الجهة التي تتبنى هذا الطرح وتؤطر هذا التوجه والتحركات المكرسة له، هؤلاء و ألائك التقت أهدافهم وتوجهاتهم المعادية لحكومة الثورة و خاصة حركة النهضة مع تحالف نداء تونس الذي كان حريصا على التقاط وجمع كل خصومها بعد أن استيقن جميعهم بأن ذلك هو الخيار الوحيد لزحزحة المشهد الانتخابي القادم من هيمنة حركة النهضة، وكلنا يذكر أن المغدور شكري بلعيد كان من بين الأصوات الناشزة التي رفضت انضمام الجبهة الشعبية لتحالف نداء تونس بالرغم من مواقفه المترددة من قانون تحصين الثورة واقصاء قدماء التجمعيين، ويبدو أن مقتل شكري بلعيد لا يمكن فصله عن هذا المشهد العام حيث يمكن أن يكون قد اختارته بعض الأطراف كقربان من أجل تحقيق هدفين في نفس الوقت وهما إزاحة العقبة التي تحول دون انخراط الجبهة الشعبية في اتحاد نداء تونس ثم اتهام حركة النهضة بأنها مورطة في عملية الاغتيال لتأليب الرأي العام ضدها قصد اضعافها في المحطات الانتخابية القادمة، ويبدو أن التوقيت الذي اختاره منفذو الجريمة فيه أكثر من رسالة فهو إن أريد به لكي يكون مصدقا لنبوءة السبسي الذي وعد بإسقاط الحكومة قبل أن ينجح المجلس التأسيسي في تمرير قانون تحصين الثورة، فقد أريد له كذلك أن يكون متزامنا مع أزمة التحوير الوزاري والذي كانت التوقعات بشأنه تتجه نحو تشريك كتل جديدة بالمجلس التأسيسي على أرضية دعم استحقاقات الثورة ومساندة مشروع تحصين الثورة، وقد بادر رئيس الحكومة - الذي كان على ما يبدو تحت ضغط لوبيّات جهوية لم يرقها ما تسرب من احتمال مشاركة طرف ثان رئيس الحكومة صلاحياته وضغط استشارات من أطراف لا مصلحة لها في انقاذ التحالف الحاكم من الانهيار- بالإسراع بإيقاف كل المشاورات حول التحوير الوزاري مع الشركاء السياسيين واعلان قراره بتشكيل حكومة كفاءات غير حزبية والحال أن الجميع يعلم أنه لا توجد عمليا كفاءات مستقلة، ثم أن اسقاط الحكومة الحالية وتعويضها بحكومة كفاءات سوف يحقق للأطراف التي لم تؤمن بالثورة وتعمل على اجهاضها مكسبين أساسيين وهما ارباك الأبحاث والتحقيقات التي تجريها وزارة الداخلية للكشف عن مخططي ومرتكبي جريمة اغتيال المغدور شكري بالعيد وكذلك قطع الطريق على وزراء الترويكا والنهضة بالذات الذين شرعوا في احداث اصلاحات هيكلية ترمي إلى القضاء على منظومة الفساد واستبدالها بمنظومة مبنية على مقاربة تنموية اصلاحية تحسب لفائدة أصحابها في المحطات الانتخابية القادمة. لقد أرادت عديد الأطراف توظيف مقتل شكري بلعيد لأغراض مصلحية حزبية بعيدا عن الشعارات واعتبرته شهيد الثورة بعد أن كانت تشكك و لا تؤمن بحصول ثورة أصلا، فبقدر ما كانت القوى الرجعية المرتبطة بالنظام البائد طموحاتها الانقلابية على الثورة واقعية وذات حسابات سياسوية انتخابية فإن التيارات الماركسية اللينينية قد تصورت كعادتها انطلاقا من حساباتها الثورية المراهقة والارتجالية أنها قادرة على أن توظف وتستغل مقتل شكري بالعيد لإشعال فتيل التمرد والعصيان على النظام القائم. فهي إن كانت قد خططت بإحكام من أجل تجييش الشارع وخلق جو من الفوضى الخلاقة التي قد تساعد على انهيار الدولة وانقضاض المتربصين على السلطة، فالاصطفاف الرهيب والمنضبط على مدار الساعة الذي عرفته وسائل الاعلام الخاصة والعمومية وانخراطها المستميت في بث كل أشكال الدعاية المكرسة للكراهية والاتهامات المجانية لحركة النهضة وتحميلها مسؤولية اغتيال بلعيد بلغة لم يعهدها الشعب التونسي موغلة في العنف اللفظي والحقد المجاني والذي وصل إلى حد إدراج القناة الوطنية صور من العنف الذي صحب حادثة السفارة في بثها المباشر لجنازة الفقيد لإيهام المشاهدين بتورط اسلاميين في تعكير صفو الجنازة في محيط مقبرة الجلاز، كما ساهمت عديد الاذاعات الخاصة في شن حملة رهيبة على حركة النهضة ولتأليب الرأي العام لدفعهم لردود فعل عنيفة وصلت إلى حد بث ‘'احدى الاذاعات'' خبر الهجوم على مقر فرع حركة النهضة بصفاقس قبل ربع ساعة من وقوعه وهي المسافة التي تفصل عن مقر الحركة المتظاهرين من التلاميذ المدفوعين للتظاهر من قبل الأساتذة المنتمين للتيارات اليسارية وقد التقط الخبر أحد رموز رابطة النضال الشبابي المنتمية للجبهة والذي كان ممن يتقدم المسيرة – وكأنها رسالة مشفرة – لتوجيه التلاميذ وأكثرهم من القصر إلى مقر الحركة للعبث به وتهشيم محتوياته وهذا التسلسل في الأحداث والترابط بينها تحفه عديد الشبهات والشكوك التي تستدعي فتح تحقيق جدي في احتمال تواطئ بعض الأطراف في نشر الفوضى والتخريب. ومن حسن حظ المتآمرين على أمن تونس وعلى تجربته الديمقراطية ومن سوء حظ شعبها أن تقاطعت مواقفهم من حكومة الثورة مع مواقف القوى الاستعمارية التي لم تغفر للحكومة ولوزير خارجيتها زيارته التاريخية إلى غزة وموقفها الداعم لها، وقد وصل الأمر إلى حد الدعوة التي وجهها الباجي قائد السبسي إلى فرنسا لكي تدعم ما سماهم الديمقراطيين وتقطع الطريق على الاسلاميين لكي لا يعودوا مرة أخرى إلى دفة السلطة، بل وصل الحد بإحدى الرموز اليسارية إلى دعوة فرنسا للدخول إلى تونس لإزالة الاسلاميين من السلطة كما تقوم بذلك في مالي !!!! . ولئن نجح معارضو حكومة الثورة في التأكيد على إحكام قبضتهم على الإعلام فإنهم فشلوا مرة أخرى في الإطاحة بها.... ويبقى السؤال المحير الذي يطرح نفسه ماذا لو أصر الشعب التونسي في المحطة الانتخابية القادمة على خياره وانحاز مرة أخرى إلى النهضة والقوى الثورية رغم القصف الاعلامي الرهيب الذي تتعرض له فماذا سيكون الموقف حينئذ. لقد قال أردوعان الذي تعرض في بداية مشواره السياسي إلى مواقف شبيهة من القوى العلمانية المتطرفة واليسارية :" لقد تعرضنا إلى قصف إعلامي عشوائي لمدة ثلاث سنوات قبل أن نتمكن من التخلص منه عندما بدأت تظهر نتائج ثمار الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي انتهجتها الحكومة"