بقلم حاتم الكسيبي بعد أن استتب الوضع الحذر في البلاد و أيقنت أغلب التشكيلات السياسية بضرورة إنهاء الفترة الانتقالية بسرعة و دعوة الشعب لصندوق الاقتراع من جديد لبداية مرحلة يصفها الجميع بالوضع الدائم والمستقر، أسرعت قوى الرّدة من الدّاخل والخارج إلى محاولة زرع الفتنة من جديد و إيقاظ شبح الخوف و القتل والإرهاب علّها تنجح في محاولة أخيرة في إرباك الوضع وتأزّمه و تمديد الفترة الانتقالية، فيعزف المواطن عن السياسة و السياسيين و يكفر بنتائج الصندوق قبل الاقتراع ثم يتمنّى وضعا قديما بدأ يتلاشى من مخيلته. حزمت السلطة والمعارضة أدوات السّجال السياسي كالتصريحات و ردود الافعال و الاجتماعات والندوات وتقديم البرامج، وبدأت تفكّر جديا في سباق الغد الذي لاح أفقه نوعا ما وان تراكمت السحب وقصف البرق الإعلامي في بعض الأحيان. كلّ أدرك أنّ عجلة الزّمان تدور بسرعة فائقة وأنّ أرصدتهم الانتخابية باتت تفتقر إلى الأصوات الدّاعمة و الثّقل الشعبي، فلكلّ نجاحات وإخفاقات ولكلّ حقّ في الزّعامة وقيادة البلاد في الفترة القادمة. ولكن قوى الرّدة لا تأبه بهؤلاء و أولئك بل تواصل تعقيد الأمور وتعطيل المسار مهما كان الثمن، ولذلك اجتمعت الأزلام في الداخل والخارج بمروّجي الفتنة و التطرف والمغضوب عليهم والضّالين بعد أن صرفت الأموال ودفعت الأتعاب مقدّما. لقد عادت قنواتنا إلى برامج الحوار التلفزي الفارغة بعد جفاء قصير نسبيا، فاستبسل الجميع في إظهار عيوب الآخرين و إطلاق الوعود و كأنّ المتفرج مستقدم من بلاد بعيدة و لا يعيش واقعا مزريا لا يكاد يفارقه حتّى في أحلامه، وينغمس كل صباح في ذات الواقع من جديد وهو يستمع إلى نشرة الأخبار الصباحية. و ليعلم القارئ أنّ التموقع في المعارضة في وضع انتقالي كالذي نعيشه يعتبر تملّقا وفرارا من المسؤولية، فبلادنا في حاجة لكل السواعد والعقول لتبني مجدها و رقيها ولعل التآزر والعمل الجاد بحميميّة يرفع التحدّيات ويخدم مصلحة الجميع فينال كل جزاءه حسب ما قدّم من خير لهذا الوطن. ولكنّ هذا الأمر بقي حلما صعب التحقق لعديد المواطنين وهم يلحظون الهجوم والهجوم المعاكس للسياسيين والمكيدة و الكذب والبهتان والخديعة وسبر الآراء المفترى وغيرها من مظاهر الجذب إلى الوراء. ولعلّ استفحال ظاهرة الفوضى و إطالة الفترة الانتقالية تمثّلان أهمّ المشاغل السياسية في بلادنا التي تعصف بنا كل مرّة فتكاد تقتلع الثائرين وتلقي بهم إلى ما وراء البحار، ثم تمكّن من جديد لأصحاب الحزب القديم. إنّ المتقصّي للأحداث اليومية والمنتبه لمدى تناسقها و سرعة تتابعها يقف على عدة نجاحات لمعارضة استبسلت في وضع انتقالي، فلقد نجحت في التهديد بالاضراب العام ثم تنفيذه اثر وفاة أحد قادتها، و وفّقت في تشجيع الاعتصامات هنا وهناك واعتبرتها حرية تعبير وحقوق استعجالية قامت عليها الثورة. ولما كانت هيبة الدولة في وضع لا تحسد عليه، نجحت المعارضة في التّدخل في القضايا المنشورة و توجيه الرأي العام ولنا في هذا المجال أن نذكّر بقضية العلم والمغتصبة و غيرها من القضايا التي حكمت فيها الصحف والمنابر الإعلامية قبل أن يدلي القاضي بحرف واحد. لقد نجحت المعارضة أيضا في تأليب بعض المناطق المحرومة ودفعهم للخروج بصور المخلوع يرجون عودته ولعلّ أحدهم ذكر إبّان انتخابات أكتوبر أن تونس ستبكي يوم غادر المخلوع البلاد، اكبر دليل على ولائهم للفارّ وبعدهم عن الثورة. ولقد نجحت هذه الأحزاب المعارضة في طرح هوية الشعب التونسي على المزاد العلني فناقشت تركيبته ودينه ولغته وثوابته و أحيت أحقادا دفينة بين الفرق الدينية بعد أن سوّقت لإسلام تونسي خالص لا نعرف محتواه غير كلمة التسامح التي تركها المخلوع تذكر بيننا، ثم أذكت في نفس الحين عصبية العروشية والجهوية كلّما دعت الحاجة لتأجيج نار الغضب وعدم الرضا على ما أفضت اليه الانتخابات. ولقد بلغت المعارضة العظيمة أرقى مستويات النجاح والسؤدد عندما أسرّت في بعض القنوات عن استنجادها واستعطافها لقوى خارجية للحسم السياسي ولكنّ الترويكا أخفقت في الرجوع إلى الديكتاتورية بعد أن عبّرت عن تقديسها للحرّيات العامة كحرية الاجتماع و إبداء الرأي دون خوف أو تردد. لقد كان لهذا "الإخفاق" باهض الثمن فاحترم المذنب و البريء على حد السّواء وتكدست قضايا السّب و الثلب و التّعدي على الغير على رفوف المحاكم. ثم أخفقت الترويكا في الرجوع إلى امن قمعي بعد أن تبنت مقولة الامن الجمهوري و سعت لانتاجه بخطى بطيئة ولكنها ثابتة. فأضحت مقولة عمران السدوسي "أسد علي وفي الحروب نعامة" تراثا تهدّمت شرفاته منذ أن قدّر لوزارة الداخلية أن تكون حامية لكل الشعب وليس لحاكمه فقط. ولعلّ الإخفاق في سرقة الاموال يعد أشنع انواع الفشل، فلقد قدّر لهذا الشعب أن يقتات و يعيش ولو بشطف رغم إضراب قطاع الفسفاط الحيوي لشهور عدة. ففسفاطنا رئتي الاقتصاد و قلبه النابض بالأموال والخيرات التي كانت تنهب ممن سبق و تخزن في بنوك العالم، نحرم منه ومن وفرة إنتاجه اليوم نكالا بالشعب وبالحكومة وبالمجلس التأسيسي أصل السلطة التي اخترنا تثبيتها. لله دره هذا الشعب الذي استدعي لابداء رأيه فقال ما قال فاتهموه بالغباء وقلة النضج ثم غازلوه بشتى الوسائل ثم هدّدوه في رزقه وأمنه، وفي كل مرة لا يأبه المسكين بمقولاتهم وقد صرف نظره عن المخلوع وطريقته في الحكم نهائيا، ولكنّه يستمع اليهم دوما عله يقتنع، أتراهم يعيدون الكرّة و يقنعونه بنجاحاتهم فيستدرجوه لانتخابهم في المرة المقبلة؟ ربّما ؟