بقلم عادل السمعلي . لا للتقشف ...لا للمديونية ...لا للإملاءات الخارجية ...هذه هي اللاءات الثلاثة التي عنونت مشروع الجبهة الشعبية لقانون المالية البديل الذي تم اقتراحه على حكومة مهدي جمعة منذ بضعة أيام والذي قال عنه زعيم الجبهة الشعبية حمة الهمامي(: نحن أول قوة سياسية معارضة في تاريخ تونس تجرؤ على تقديم مشروع ميزانية قابلة للتنفيذ )ولنا أن نتساءل بهذا الصدد عن محتوى ومكونات هذا المشروع وعلى مدى قابليته للتطبيق في وضع اقتصادي متأزم و متسم باختلال التوازنات المالية الكبرى. فمن خلال تصفحي لهذا المشروع البديل الذي يحتوي على قرابة خمسين صفحة مبوبة يمكنني أن أسوق بعض الملاحظات النقدية من باب محاولة الفهم والتحليل ونتساءل هل نحن بصدد مشروع مالية بديل واقعي وعقلاني وقابل للتحقيق على الارض أم أن هذا المشروع يكتنفه ضعف رؤية وثغرات تجعله مجرد تصفيف لأفكار ومقترحات مبعثرة قد عفا عن معظمها الزمن . ففي باب اقتراح تعليق خلاص الديون الخارجية يمكننا القول أنه اقتراح إعلان إفلاس دولة لا غير فمن المعلوم أن اختلال التوازن الاقتصادي في تونس يتطلب حلولا عاجلة لا تتحمل التأخير وأن الحديث عن تعليق خلاص الديون الخارجية لمدة لا تقل عن ثلاثة سنوات ريثما يتم التدقيق المالي لتلك الديون مقترح مفارق لمنطق الواقع الاقتصادي لتونس لأنه بمجرد إعلان نية التوقف عن سداد الديون سيكون له تأثير كارثي على الاستثمارات الاجنبية التي نحن في أمس الحاجة إليها على المدى القصير وسيجعل هيئات الترقيم السيادية تضع تونس في أسفل السلم الدولي وكدولة فاشلة اقتصاديا لا يمكن التعامل معها مما سيمنع المانحين والهيئات الدولية من صرف تمويلات جديدة مع إضافة إمكانية وقف الاقساط المالية المستحقة من القروض القديمة مما سيوجه ضربة قاصمة للاقتصاد التونسي ويحيلنا لوضعيات بائسة لم نشهدها منذ الاستقلال وإن كان البعض يقارن هذا المقترح بما حدث لدولة الارجنتين أواخر التسعينات حين تملصت من خلاص الديون الاجنبية المستحقة فإن الدارس للحالة الارجنتينية يعلم جيدا أنه لا سبيل للمقارنة بينها وبين تونس خاصة وأن الارجنتين أعلنت إفلاس خزائنها من العملة الصعبة ورفضت خلاص الديون لأنها كانت تستفز الهيئات المالية الدولية للتدخل ومنحها مزيدا من القروض وهذا ما تم فعلا وقتها في حين أن تونس حاليا تتمتع باحتياطي معلن من العملة الصعبة كافي لتغطية الديون خلال هذه السنة وأن مشاكلها الاقتصادية الحالية لا يمكن مقارنتها بدول أمريكا الجنوبية ولا حتى بأزمات إسبانيا واليونان. فالسقوط في المقارنات التي لا تستقيم تؤدي إلى اقتراح حلول مسقطة وغير واقعية للوضع التونسي الراهن . أما عن اقتراح منحة بطالة لأصحاب الشهائد العليا بمبلغ مائتي دينار شهريا فهو اقتراح شعبوي لا يتماشى مع حقيقة المالية العمومية في تونس و يشجع على عقلية الربح السهل وعقلية التواكل والكسل فهذا الاقتراح يذكرنا بمنحة أمل التي قررتها حكومة قايد السيبسي سنة 2011لقرابة 170 ألف عاطل لأسباب اجتماعية والتي أثقلت كاهل الدولة قبل أن يتبين للجميع عدم جدواها دون أن ننسى أن نسبة من هذه الاموال ذهبت لجيوب بعض الانتهازيين حيث تم تدقيق حوالي 15 ألف حالة تمتعت بهذه المنحة والحال أنها تشتغل وليست عاطلة عن العمل ( بفضل ماكينة التجمع التي مازالت تسيطر على الادارة ) فمثل هذه الاقتراحات الاجتماعية لها طابع دعائي انتخابي ولا تخضع لحقائق الثقافة الاجتماعية ولا تلتفت لحدة عجز الموازنة العمومية التي لا يمكن أن تتحمل مثل هذه المصاريف التي ليس لها عائد على الانتاج وخلق الثورة بل تساهم في تعميق ثقافة التواكل . يجب أن يعلم الرأي العام أن منحة البطالة التي تسديها بعض الدول المتقدمة للعاطلين لا يمكن استنساخها في تونس بطريقة الاسقاط بدون توفر شروطها الموضوعية وهذه الشروط يغلب عليها الطابع الاقتصادي وإن بدت للناظرين أنها ذات بعد اجتماعي فالدول التي تبنت آلية منحة البطالة كانت تراهن على تحريك الاقتصاد من خلال الاستهلاك وأن هذه الدول تتمتع بوفرة في الانتاج ويتم إسناد هذه المنحة لامتصاص وفرة الانتاج وبالتالي تمكن من تحريك الدورة الاقتصادية المراكمة للمال من جديد ولكن الوضع التونسي مغاير بتاتا فلا يوجد وفرة للإنتاج كما أن المجتمع أصبح مجتمعا استهلاكيا بطبعه ولا موجب لتحفيزه بالاستهلاك . إن حديث ما سمي بقانون المالية البديل عن تشغيل 61000 موظف خلال هذه السنة و استعراضه لبرامج التنمية الجهوية ومحاربة التهريب عبر الحدود و عن الاصلاح الجبائي وغيرها من المشاكل التي يعرفها الجميع أتت كلها في سياق وكأننا أمام حملة انتخابية سابقة لأوانها توزع الوعود المجزية وتحيي الآمال الوردية بعيدا عن حقائق الواقع الاليمة التي تتطلب حكمة ورشدا والتصاقا وطيدا بالواقع وبالأرقام والمؤشرات الحقيقية والتي تتطلب حلا عاجلا وسريعا في انتظار أن تتوضح الرؤيا أكثر في السنوات القادمة... ... فليس كل جدول حسابي يضع رقم الواردات على اليمين ورقم المصاريف على اليسار يمكن أن يكون قانون مالية صالح للتطبيق وأن الاهم من وضع الارقام يمنة ويسرة هو تبيان طريقة الجمع والحساب وخاصة مدى ارتكاز هذه الارقام على رؤية حقيقية للواقع الاقتصادي وعلى القدرة على فرز الامكانات المتاحة والقابلة للتطبيق من تلك التي هي صعبة التحقيق أو مستحيلة التطبيق بناءا على عناصر الزمان والمكان والوضع الانتقالي التي تمر به البلاد وهذه المعطيات لم ألمسها للأسف من خلال إطلاعي على الوثيقة البديلة لقانون المالية 2014 الذي قدمته الجبهة الشعبية والذي يتسم بالتفاؤلية الطفولية وقدم على أساس برنامج طموح قابل للتطبيق . إن الاقتصاد التونسي يحتاج لقرارات مؤلمة وجريئة للنهوض والتعافي وذلك بقدر نفس القرارات المؤلمة التي جنت على البلاد لأكثر من عقدين من الزمن من خلال السرقة واللصوصية والاستحواذ على المال العام لأنه ما تم إفساده إراديا ومنهجيا خلال العهد البائد لا يمكن إصلاحه في ظرف سنة أو حتى ثلاثة سنوات والحوار الاقتصادي الوطني الذي يتم فيه تدارس كل الاشكاليات واقتراح الحلول الممكنة والواقعية هو ضرورة وطنية واجبة لا تقل عن الحوار السياسي بل هو أولى منه لأن الانتقال السياسي بدون توازن اجتماعي واقتصادي لا يمكن أن ينجح خاصة أن الفترة التالية للثورة للأسف الشديد كان عنوانها الرئيسي تعطيل المسارات التنموية والمزايدات في كل المجالات بكل امتياز حتى أصبحت لقمة عيش المواطن العادي لقمة سائغة لتجار السياسة يتلاعبون بها في كل المناسبات.