كثُر اللّغط بين صفوف التونسيين مؤخرا حول أهم وأولى اجراءات سياسة التقشف التي اعلن عنها وزير المالية الياس الفخفاخ والمتعلقة بانطلاق الحكومة في تطبيق اجراءات تتضمن اساسا التقليص في مصاريف الدولة بنسبة 5 في المائة بعد ان فاقت نسبة عجز الميزانية 7 بالمائة في السنة الحالية. وانتشرت ملامح القلق بشان وضع البلاد وما ستؤول اليه بتطبيقها هذه السياسة خاصة وان سياسات التقشف لم تعطي أُكلها ولم تنجح في العديد من بلدان العالم على مر السنين.. ففي الإكوادور، كانت الحكومة قد طبقت برنامجا صارما للتقشف برعاية صندوق النقد الدولي، فقامت ببيع المنشآت العامة وخفّضت قيمة العملة. الأكثر من ذلك أن نخبة الحكم سعت بالتعاون مع رجال الأعمال إلى نهب القروض التي قدمها البنك الدولي للدولة وتهريبها إلى الولاياتالمتحدة. وكانت نتيجة هذا الوضع أن بلغ معدل البطالة 80% ومعدل التضخم 60%، بينما انخفض معدل النمو إلى 7%. وفي الأرجنتين اتفقت الحكومة مع صندوق النقد الدولي في بداية التسعينات على إعادة جدولة الديون البالغة قيمتها 60 مليار دولار في مقابل تطبيق برنامج للتقشف تم بمقتضاه بيع كافة الوحدات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية المملوكة للدولة وتحويل هيئة المعاشات والخدمات الصحية إلى القطاع الخاص. وقد أدى هذا البرنامج إلى ارتفاع معدلات البطالة حتى بلغت في نهاية التسعينات 20 %، وبلغت نسبة السكان تحت خط الفقر 40 %، وأدى ارتفاع الأسعار إلى انخفاض معدلات الأجور الحقيقية بمقدار 20 %. ومؤخرا، الوضع الذي آلت اليه اليونان اليوم بعدما اتبعت سياسة التقشف كحل بديل للخروج من دائرة الافلاس مما ادى الى تدخل الاتحاد الاوروبي لحل الازمة بمنحها قرضا بقيمة 110 مليار يورو في الفترة ما بين سنة 2010 و2013 لكنها لم تفلح حتى بعد هذا التدخل وارتفعت قيمة ديونها وعرفت عجزا ليصاب اقتصادها بالركود. هذا الى جانب التأثيرات السلبية التي تترتب عن تطبيق سياسات التقشف على ابرز المسارات الحياتية حيث تؤثر بشكل مباشر على مشاريع التنمية والرعاية الاجتماعية، وغيرها من النفقات الاجتماعية والبرامج المشتركة لخفض الإنفاق. وزيادة الضرائب ورسوم الموانئ والمطارات والقطارات والحافلات.. وللوقوف على مدى نجاعة سياسة التقشف في بلادنا، توجهت "الصباح" الى بعض المختصين في الشأن الاقتصادي. فقد افاد رضا الشكندالي استاذ تعليم عالي في الاقتصاد ان سياسة التقشف تاتي على مستوى الميزانية وذلك بالضغط على وسائل المصالح وعلى الاجور وعلى منظومة الدعم، مبينا ان تصريح وزير المالية المتعلق بالتخفيض بنسبة 5 بالمائة من مصاريف الدولة يقصد به في الواقع وسائل المصالح "التي تبلغ نسبة 0.9 بالمائة اي ما يناهز 995 مليون دينار من القيمة الجملية لميزانية الدولة لسنة 2013 والتي تبلغ 26.8 مليار." واشار في هذه الوضعية انه سيقع التقليص من الميزانية بنسبة 0.04 بالمائة وبالتالي لا يؤثر هذا الرقم على توازنات الميزانية العامة. من جهة اخرى، بيّن الشكندالي انه "لا يمكن الاعتماد على الاجور لانها سائرة لامحالة نحو الارتفاع كما لا يستقيم المساس بمنظومة الدعم لان عملية التخفيض فيها تؤدي الى ارتفاع الاسعار، وبالتالي تنهار المقدرة الشرائية وفي هذه الوضعية سوف تتحرك المنظمة الشغيلة الممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل لتدافع عن المستهلك .."حسب تعبيره. واكد محدثنا على انه يتعارض بشكل واضح مع تطبيق هذه السياسة، مشيرا الى انها لم تنجح في العديد من بلدان العالم و"لم تنجح الا في البلدان التي تتوفر فيها توازنات مالية ممتازة واسقرار سياسي وتتوفر فيها هدنة اجتماعية وسلم اجتماعية." وذكر في ذات السياق، ان بلادنا اليوم تعيش "لخبطة" كبيرة واضطرابا سياسيا واجتماعيا وليس لها ارضية ملائمة لتطبيق سياسة التقشف، مؤكدا على ضرورة "تعديل هذا القرار من قبل الحكومة باعتباره غير صائب ولايؤدي في الوقت الراهن الى حلول ناجعة لتخرج البلاد من الازمة". سياسة انعاش اقتصادي.. واضاف محدثنا ان تطبيق سياسة انعاش اقتصادي هي اسلم من سياسة التقشف بالرغم من انها تحمل بعض الاشكاليات هي الاخرى، "لانها تتطلب الكثير من التمويلات الخارجية " مبينا ان تونس فقدت نقطتين في الترقيم السيادي مؤخرا "الشيء الذي يفقدها حظوظ التمتع بالتمويلات من الخارج وبالتالي سوف نتوجه الى السوق المالية العالمية وهو امر مكلف خاصة على مستوى ارتفاع الفائدة." ولم يبخل محدثنا في هذا الصدد باقتراح حل بديل للخروج من الازمة مفاده "ضرورة ايجاد حل سياسي كمخرج للازمة الاقتصادية بتوافق جميع الفرقاء السياسيين وتشريك اخصائيين في الشان الاقتصادي" واشار الى ان هذا الحل "من شانه توفير ارضية ملائمة لتطبيق مثل هذه السياسات الاقتصادية على غرار سياسة التقشف"، مبينا ان الظرف الذي تعيشه البلاد حاليا لا يسمح بتطبيقها لانها ستساهم في ارتفاع البطالة وبالتالي ضرب اهم هدف من اهداف الثورة ." واكد على ضرورة "تنظيف كل الشوائب الاقتصادية العالقة خلال سنة 2013 للمرور الى مرحلة البناء وتوضيح الخارطة الاقتصادية الجديدة للبلاد." وفيما يخص المسارات التي سوف تمسها سياسة التقشف المزمع تطبيقها، افاد الخبير الاقتصادي الشكندالي ان ابرزالقطاعات الحيوية "سوف تتضرر من جراء هذه السياسة على غرار قطاع التصدير وعلاقته بالقرار المتعلق بالزيادة في نسبة الاداء على الارباح للشركات المصدرة بنسبة 10 بالمائة، وكذلك الزيادة في قيمة الاداء على الدخل للاجراء ما فوق 1700 دينار الذي سيمس الاستهلاك الخاص." سياسة التقشف ضرورة .. بالمقابل، اعتبر معز العبيدي الخبير الاقتصادي "أن سياسة التقشف ليست خيارا بل هي ضرورة يفرضها الوضع الاقتصادي الذي تعيشه البلاد بالنظر إلى العجز الذي يعرفه الميزان التجاري خلال الثمانية أشهر الأولى من السنة الحالية والذي بلغ 5.8% وقد يصل إلى نسبة 8% على الأقل مع نهاية السنة الحالية." واشار كذلك الى الانخفاض الذي عرفه احتياطي العملة الصعبة والذي يناهز ال 100 يوم فقط، دون نسيان العجز الذي تعرفه ميزانية الدولة وعدم تحقيق نسبة النمو المنشودة وهي 4.5 %، اذ تتحقق سوى 3.6 % مع امكانية تراجعها نهاية 2013. ونبه العبيدي الى التفطن والوقوف عند ضعف الموارد الجبائية التي تعتبر أكبر ممول لخزينة الدولة والذي "ادى الى تعميق العجز على مستوى العائدات". كما افاد أن نفقات الأجور التي بلغت 10 مليارات ونفقات الدعم التي تجاوزت 6 مليارات تعتبر من أبرز الأسباب التي أدت هي الاخرى الى تازم الوضع الاقتصادي، مؤكدا على ضرورة الشروع في تطبيق الاصلاحات الفورية والعاجلة لمنظومة الدعم لاسيما وانه شرط اساسي للحصول على قروض وتمويلات خارجية. وشدد معز العبيدي على ضرورة وضع ضمانات لانجاح سياسة التقشف، مؤكدا على ضرورة التوزيع العادل في تطبيق هذه السياسة والذي "لابد ان ينطلق من مقرات الرئاسات الثلاث تحديدا من قصر الرئاسة بقرطاج مرورا بقصر الحكومة بالقصبة وصولا إلى المجلس الوطني التأسيسي من خلال التخفيض من نفقات هذه المؤسسات لكسب ثقة المواطن التونسي للانخراط بصفة الية في سياسة التقشف. وبدوره، أكد العبيدي على ضرورة الاجماع والتوافق السياسي بين مختلف الأطراف الاجتماعية عبر الانخراط في هدنة اجتماعية خلال فترة تطبيق سياسة التقشف من خلال الابتعاد عن المطالبة بالزيادة في الأجور من جهة، والتزام الحكومة بعدم الترفيع في الأسعار مع ضرورة التحكم والحد من التضخم، من جهة أخرى. وفاء بن محمد
سياسة التقشف سياسة قديمة جدا، طبقتها إسرائيل في العام 1949 وحتى عام 1959م، وطبقتها الأرجنتين في 1952م وكذلك اسبانيا في 1979 والمكسيك عام 1985وكندا 1979 وكوبا 1991 وأخيرا اليونان في العام الحالي 2010. وفي عالم الاقتصاد، التقشف هو عندما تخفض الحكومة أنفقها أو زيادة الرسوم المفروضة على السداد للدائنين وعادة التقشف مطلوبة عندما تواجه الحكومة عجزا ماليا في الإنفاق الغير قابل للاستدامة. وبالمعنى العام يفيد التقشف صعوبة العيش بسبب عدم كفاية حاجيات المواطن وفي المعنى السياسي هو برنامج حكومي ذو طابع اقتصادي يستهدف للحد من الاسراف والتشجيع على الادخار والعمل على مضاعفة الانتاج وذلك لمعالجة الازمة الاقتصادية التي يمر بها اي بلد.