المحامي / عمر الرواني لا شك أن العملية الإرهابية الأخيرة بمدينة القصرين ، والتي قتل فيها غدرا أربعة أعوان امن ، تعتبر نقلة نوعية في عمل الجماعات المسلحة بتونس ،ليس فقط في استهدافها لمنزل السيد وزير الداخلية بما لذلك من رمزية ، وليس فقط من حيث التنظيم والسهولة في الاختراق والقتل ثم الهروب إلى الجحور ، ولكن في الحيز الزمني الواسع نسبيا للعملية في مدينة صغيرة مثل القصرين وفي المظاهر التي اعتمدها الجناة بعد تنفيذ العملية ، بما يوحي بأنهم دخلوا مرحلة جديدة ، فبعد مرحلة المواجهات المحدودة والسريعة والانسحاب السريع ، وبعد الاغتيالات السياسية ، نشهد الآن احتلال إحياء ومناطق صغيرة لمدة محددة ، لساعات مثلا ، والقيام بجولة استعراضية ورفع الشعارات " الجهادية " بما لذلك من دلالات ، وهي المشاهد التي نراها تحدث في سوريا بعد كل عملية قتل لأسرى بدم بارد بلا شفقة ولا رحمة وفي مخالفة واضحة وصريحة للتعاليم الإسلامية زمن الحروب فضلا عن زمن السلم والحرية التي تشهدها بلادنا ، يتضح الآن جليا أن "الجهاديين " أصبحوا يعتبرون تونس "ارض حرب " ولم تعد "ارض دعوة " وهو ما يجب علينا أن نستعد له جميعا وبكل الوسائل للحد من تداعياته ، ويجب على كل تونسي أن يتملكه الشعور بالمسؤولية أكثر من أي وقت مضى وان يعتبر نفسه يقف على ثغرة من الثغرات الأمنية للبلاد وألا نترك الأمنيين وحدهم يواجهون هذا الخطر المحدق ، وان لم يكن ذلك انطلاقا من الوازع الوطني والديني ، فإن آلة القتل التي تعتمد الدين ذريعة لها هي آلة فوضوية لا تمييز لها ، وان المرور من استهداف الأمني الذي هو خط الدفاع الأول إلى استهداف المدني الأعزل هي حتمية لا مناص منها ، إن الواجب الوطني اليوم يدعونا إلى الابتعاد عن أسلوب التشكيك ، التي تتزعمه موائد الحوار التلفزي والمنابر الإعلامية التي تقتات من دم التونسيين وتجعله مواضيع للإثارة ، وعلينا أن نتحلى بالروح الوطنية ، فالذي يتحدث عن اختراق وزارة الداخلية عليه أن يتحفظ أو أن يلقى بما لديه من أدلة للجهات المسئولة لوقف هذا النزيف إن وجد ، وإلا يجب أن يتعرض للمساءلة الجنائية ، لما في الأمر من خطورة على امن الدولة والسلم الأهلي ولما له من تأثير على زعزعة الثقة العامة داخل الأجهزة الأمنية والأمنيين فيما بينهم، وعلى هزّ ثقة المواطن بتلك الأجهزة. إن الالتقاء الموضوعي (حتى لا اذهب بعيدا ) لأجندة الإرهاب الفوضوي الاعمي مع أجندة بعض الأحزاب لا يجب أن ينحرف بها إلى تبييض العمليات الإرهابية بما يرجعونه من تقصير للجهات الأمنية ، فيقتلون الأمنيين مرة أخرى هي الأخطر، فالحقيقة أن أقوى الدول وأكثرها استعدادا وعتادا لم يكن بإمكانها وقف العمل الإرهابي الذي له مواصفات الغدر والمفاجأة ، فبالرغم من أن الأجهزة الأمنية تفتقر للإمكانيات المادية واللوجستية وخاصة الاستخباراتية التي تمكنها من مواجهة فعالة لهاته الظاهرة ، وبالرغم من أنها غير مؤهلة بالكامل لهذا التطور الجديد في نوعية العمليات ، فإنها تقوم بمجهودات خارقة للكشف عن هاته الشبكات والتصدي لها ، غير أن العمل ألامني العشوائي في بعض الأحيان قد تكون له انعكاسات سلبية على مواجهة الإرهاب ، ففي بعض الأحيان نجد أن الأمنيين يتعاملون مع موضوع الإرهاب بالبساطة التي كان يتعامل معها النظام البائد ، فيكتفون بسياقة بعض الشباب المتدين بدون أدلة إدانة وبدون أعمال استخباراتية حقيقية وفعالة يسوقونه إلى المحاكم بدون جريمة فعلية وثابتة ولكن بعقلية وقائية قديمة لم تعد تتأقلم مع الوضع السياسي وخاصة القضائي الجديد ، فلئن أدان بعض القضاة هؤلاء الشباب على الرغم من تلك الملفات الفارغة بنفس الوازع الوقائي ودون أدلة قانونية حقيقية ، فان النهاية تكون عادة لصالح ترك السبيل في ظل دولة طموحة لأن تكون دولة قانون ومؤسسات ، أن هذا الأسلوب ليس فقط خطر على العمل الأمني ألاستخباراتي ، ولكنه يساهم بدرجة كبيرة في تفريخ إرهابيين جدد وشحذهم معنويا للانضمام إلى الجماعات المسلحة ، فان يشعر ذلك المتدين أن حرماته انتهكت وانه ظلم في المكان الذي لا يجب أن يظلم فيه وانه احتجز لأيام بدون جريمة وانه يتعرض للتعذيب، فذلك سيجعل القائمين على دمغجتة وغسل دماغه ينجحون بسهولة في إقناعه بدولة "العدل الالاهي الأبدية المرتقبة " وبضرورة " الجهاد " لتحقيقها وبذلك فان أي إيقافات على أساس التدين والهوية وشكل اللباس فقط خارج إطار القانون هي فوضى أمنية يجب آن تعد من قبيل الخطط البالية والقديمة ويجب أن تتوقف فورا ، وان ينتبه القائمون على الشأن الأمني إلى ضرورة رسم خطة إستراتيجية جديدة ومنوال جديد للتعامل الأمني مع الموضوع و يكون العمل ألاستخباراتي ركيزته الأولى ،و تأهيل الأمنيين وتمكينهم من الوسائل الكافية للغرض ركيزتها الثانية ، وتكون المحافظة على حقوق الأبرياء وحرياتهم وتجنب الظلم ركيزتها الثالثة ، والبحث عن دور اكبر للمجتمع ولقواه الحية في توحيد التونسيين وتجنيدهم وتحصينهم اجتماعيا وثقافيا ودينيا لمواجهة هذا الخطر المحدق وتجنب الاتهامات الجزافية لهاته الجهة او تلك لغايات سياسية وضيعة وآنية ، لا تغلب المصلحة الوطنية وتزيد في انقسام التونسيين في وقت يوجب عليهم التوحد والتضامن ولا أتحدث هنا عن الإيقافات التي تلي الجريمة وفي محيطها ولأشخاص يشتبه في تورطهم فيها والتي تكون ضرورية في مثل تلك الأحداث والجرائم للكشف عن الفاعلين ،ولكن عما نعيشه كل يوم من إيقاف ومحاكمة كثير من الشباب المتدين الذي في اغلبه لا علاقة له بالإرهاب وليس له أي معرفة أو عمق سياسي أو حتى "عقائدي" يؤهله لأن يكون مشروع إرهابي إن الحرية هي اكبر وجه من أوجه محاربة الإرهاب ، ودولة العدل والقانون هي الكفيلة بالقضاء على هاته الآفة وان أفضل رد على دعاة الفوضى من الارهابين القتلة في الجبال ونظرائهم على موائد الاقتيات من الدم من أشباه السياسيين الأعداء الحقيقيين للديمقراطية ولحقوقنا الطبيعية في اختيارنا الحر لمن يحكموننا، إن أفضل رد عليهم جميعا أن نسعى بكل ما أوتينا من قوة إلى إنجاح المسار الانتخابي والديمقراطي مهما كانت التهديدات والتضحيات وان نتجند جميعا للغرض وألا نخرق الدستور في أول اختبار له ، لنسرع في تثبيت مؤسسات الدولة الدائمة وتركيز الديمقراطية المستدامة ، وسيكون ذلك لبنة في ترسيخ التداول السلمي على السلطة وهي اكبر صفعة توجه للفوضى الإرهابية وللفوضى السياسية بكل تداعياتها ، ولكن علينا أن نثق في النهاية بهذا الشعب ، وانه أكثر وعيا من نخبه ومؤسساته وانه يحسن الاختيار ولا يرتكب الأخطاء ولا يجمع على السوء ويرفض الإرهاب والقتل ويرفض أيضا قتل روحه المعنوية كل يوم على الشاشات البنفسجية وانه شعب التحدي والمواقف الكبرى ، فحين أتيحت له فرصة الاختيار في أكتوبر 2011 كنس بصناديق الاقتراع وكلاء الاستعمار الذين جثموا على صدورنا لأزيد من نصف قرن ولم تنفع معه الرشاوى والمال الفاسد ، ولا الوعيد والتهديد ، في الاستحقاق الانتخابي القادم سيكون أقوى ، سيكون موحدا ضد الإرهاب في توجهه لصناديق الاقتراع وضد دعاة الفوضى وضد دعاة العودة للظلم والاستبداد وعبادة الأصنام ، وسيكون أيضا ضد الأيادي المرتعشة ، سيعرف جيدا من يختار ، ولكن حذار من سرقة اختياره هاته المرة ، حذار من عودة الوكلاء بأي تبرير كان ، إن شعبنا يبحث عن السيادة والاستقلال كبحثه عن الأمن والرخاء فأملى ألا تخيب النخبة التي سيختارها آماله وتطلعاته في ذلك وان تكون في مستوى وعيه وإلا فان الفوضى ستتهددنا مرة أخرى