بقلم: شكري بن عيسى (*) كان من الطبيعي ان تحدث مبادرة، بهذا الحجم والطبيعة والمضمون، في ظرف دقيق، رجة ذات آثار متباينة، سلبية للبعض وإيجابية للآخر، في الساحة الوطنية وحتى الدولية، قبيل أيام معدودات على انطلاق السباق المصيري نحو باردو وقرطاج. وكان منتظرا ان يكون التجاوب مختلفا حسب مصلحة كل طرف وطبيعة الرسالة المتلقاة، ورؤيته وموقعه من أمهات القضايا: "الوحدة الوطنية"، "المسار الثوري"، "الانتقال الديمقراطي"، "مستقبل البلاد".. رسائل النهضة رسائل النهضة كانت متعددة، عامة وخاصة، واضحة ومشفرة، داخلية وخارجية. الرسالة الاولى، هي أنها الطرف الرئيسي في مستقبل البلاد، وضعف حظوظها في الرئاسة لا يمنع أنها المحدد الرئيسي للرئيس المنتظر. الثانية، أنها غير لاهثة وراء موقع نفوذ الرئيس ولا تفكر بعقلية الهيمنة والانفراد في القضايا المصيرية. الثالثة، أنها تبحث عن الوحدة الوطنية على أساس الحوار وخلق المناخات الإيجابية والإدارة التشاركية، ولا تقبل باستمرار التناحر والتطاحن السياسي في موقع الرئيس الذي يمثل بموجب الدستور والعرف السياسي الراسخ "رمز الوحدة الوطنية". الرابعة، أنها بقدر ما تحذر بعض الأحزاب من الإغراق في الذاتية، بقدر ما تطلب منهم "التنازل"، وأنها هي برغم أنها أكبر مكون سياسي منتخب ستكون اول من سيقدم "التنازل" وهو الأكبر بحكم الفارق مع بقية الأحزاب. الخامسة، أنها لن تدخل في صفقات خاصة وجانبية مع أي طرف سياسي أو غيره وتعقد تسوية احادية على حساب أي طرف، وتظهر دوليا بمظهر الحركة التوافقية معتدلة وعقلانية المقاربات. السادسة، ان لا يمكن لأحد من رموز منظومة بن علي بالمرور للرئاسة ليس كاشتراط خاص بها وإنما اعتبارا لكونه محل إجماع شعبي واسع ومطلب ثوري، ولا يمكن لاستمرار المسار الثوري ان يستمر لو تم التنازل فيه. السابعة، انه لا يمكن لأعداء الهوية العربية الإسلامية أيضاً بالمرور لأعلى منصب في الدولة ولا كذلك أعداء القيم الإنسانية ذات المرجعية اليسارية والحداثية. الثامنة، أنها ستكون في حل من كل لوم لما تتبنى شخصية لدعمها ان فشلت المشاورات العامة العلنية الشفافة. طبعا الرسائل يبقى جزءا منها خافيا، وهذه طبيعة العمل السياسي الذي لا يكشف كل الأوراق دفعة واحدة، ولكن الواضحة منها وصلت الى اصحابها، والمشفرة علمها ملتقفوها، بالسرعة القياسية ومنهم من داخل الحركة وانصارها، والأحزاب السياسية "الصغرى" التي تلتقي في اغلبها موضوعيا مع المبادرة، وجمعيات المجتمع المدني المناهضة للانقسام الوطني وفئات واسعة من الشعب التي سئمت التناحر الحزبي ورهن الوطن والمسار الثوري في الصراع الهووي (على أساس الهوية) وأيضاً المنظمات الوطنية التي ترفع شعار الحوار والتوافق وأيضاً القوى الدولية التي تطالب وتبحث عن "حد أدنى" من "الوضوح" و"الاستقرار" يُؤَمِّن لها مصالحها في تونس، وحتى داخل بلدانها. المتضررون الرسائل كانت واضحة بدرجة انه تم التقاطها بسرعة استثنائية وكانت الردود آنية، وعكست في اغلبها "خيبات أمل" وبالنظر إلى انتظارات شخصية وغرق في المصلحة الذاتية. اغلب ان لم يكن كل الردود السلبية عكست رؤيا ضيقة من منطلق الحسابات الشخصية، واغلب أصحابها كانوا ينتظرون من النهضة اتصالات جانبية انفرادية وتسويات "تحت الطاولة"، وآلمهم ان تبحث النهضة داخل الأفق الوطني وتتعامل بشفافية وفي كنف الوضوح وان يكون الهدف وطنيا وليس فئويا. الانطلاق كان من الشابي باستعارته حادثة "الميثاق الوطني" بدلالاتها السلبية وهو العارف بدقة لاختلاف الأوضاع من حيث الأطراف والمناخ والوثيقة والاستحقاق واللحظة التاريخية وخاصة المنطلق (بين انقلاب بن علي وبين الثورة) وأيضاً الانتخابات في خصوص التزوير، وبالتالي لا وجود لأي وجه مقارنة على الإطلاق. أما الثاني فهو الهاشمي الحامدي الذي لطالما بعث بالرسائل العلنية والخفية للنهضة وانتظر كثيرا ترشيحها له، وما مسوغ "فرض وصاية على التونسيين" إلا مجرد رد فعل لخيبة أمله ولمعرفته المسبقة بشبه استحالة وقوع "توافق" حزبي مدني حوله. الطيب البكوش الأمين العام لنداء تونس، هو الآخر كان سريعا ومتشنجا في رده في اعتباره "ترشيح النهضة للباجي قائد السبسي في نطاق المبادة هو مناورة للإضرار بنداء تونس" وهو العالم ان النهضة لا يمكن ان ترشح السبسي مطلقا وان كل ما في الامر مجرد إجابات دبلوماسية تكتيكية على أسئلة "موَجَّهة" في إطار صحفي-استخباراتي خدمة لنداء تونس. لم تكن أيضاً ردود فعل سمير بالطيب من المسار أو بعض قيادات السي بي آر إلا لتعكس ضررا فرديا لحق باحزابها. أما سمير بالطيب فهو تصدى آليا للمبادرة واعتبر "المقترح غير صائب"، وهو المعادي سياسيا لكل تحركات ونجاحات النهضة وبالتالي فهو اول المتضررين آليا. وفي خصوص السي بي آر، فبرغم عدم استياعبه بعد للمبادرة فهو تحرك بردة فعل غريزية خشية ان يسقط المرزوقي ضعيف الحظوظ في الحصول على "توافق" الأحزاب. المتضررون اكيد متعددين ومنهم من لم ينطلق بعد في ردة الفعل والتصريح، ومنهم من سيمتص الصدمة ويصمت خشية افتضاح أمره، والوضعيات اكيد متعددة وأوسع من ان يقع تعدادها كلها وحصرها. الإعلام المرتبط ايديولوجيا او حزبيا او ماليا او دوليا كان فعلا من المتضررين لتضرر الأطراف التي يدعمها، وهو ما جعله يتعامل في مجمله بمعاداة مع المبادرة أو بنوع من الحصار عبثا يحاول قتلها أو تهميشها لانها قد تهدد مصالح 'الإقطاعية" التي يحمونها. بعض الدول الخليجية المراهنة على نسخة "شفيق" في تونس لحق ضررا كبيرا والمؤكد ان تحركاتها ستكون سرية ولكن كبيرة للدفاع عن اذنابها في تونس. الأغبياء (سياسيا) اغلب الاحتجاجات التي وجهت لمبادرة النهضة تركزت حول "مصادرة حق الشعب في الاختيار"، والمشكل ان عديد شرائح أفراد الشعب من المستقلين وقعوا في هذه اللعبة وصاروا يرددون هذه الحجة ضد المبادرة، والبعض منهم من أنصار السي بي آر الذين فاتهم انه يمكن طرح محمد عبو كمرشح توافقي ليس بعيدا عنهم وهو المولود داخل حركتهم خير من خسارة كل شيء إذ المرزوقي اصبح متعذرا إدارته للمرحلة القادمة في إطار العداوة الكبرى التي يناصبها له كثير من السياسين ووسائل الإعلام فضلا عن شرائح واسعة تم تضليلها ضده وبالتالي فالمؤشرات لا تصب لفائدته، وكان من التعاطي السياسي السليم التوجه نحو مرشح قريب خير من المخاطرة بخسارة الكل المحتملة عاليا. والواقع ان المبادرة لا يمكن ان تمس من حق الانتخابات أو تفرض إلزاما على الناخب، وهي بذلك تمثل توافق ادبي غير ملزم للناخب، هذا فيما يخص تهمة "مصادرة حق الاختيار". محمد عبو الذي صعد في آخر نتائج سبر آراء للزرقوني إلى قرابة 9 ٪ قادر ان يكون مرشحا مناسبا مجمعا لعائلة السي بي آر ب تفرعاتها (وفاء والتيار الديمقراطي) وحلفه السياسي المكون من التكتل وحركة الوحدة الشعبية وحزب العمل التونسي، وأيضاً حركة الشعب والتحالف الديمقراطي الذين لا يبعدان كثيرا عن توجهات حزبه، يمكن ان تسنده النهضة وتلتحق به الأحزاب "الصغرى" التي لا يمكن ان ترتمي في أحضان الشخصيات التقليدية المهووسة بحلم الرئاسة على حساب الاستحقاقات الوطنية المصيرية. أيضاً هناك من يروّج ضد مبادرة النهضة بانها يمكن ان تدعم مرشحا من منظومة بن علي وخاصة السبسي وهذا طبعا مردود، لأن ذلك يعني اندثارها شعبيا وتفككها داخليا، ثم ان المنطلق يفترض ان يكون هناك تقاسم لحد أدنى من القيم والمبادىء مع المرشح. صحيح النهضة حركة براغماتية واقعية تعتمد مقاربات الربح والخسارة السياسية ولكن لا يمكن بحال ان تدخل عبر هذه البوابة إلى دائرة المخاطر الاستراتيجية وتمس جوهر منطلقاتها الذي يمكن ان يهدد اصل وجودها. النهضة في كل الحالات صنعت الحدث وهي تسير في الاتجاه الصحيح لأول مرة تقريبا بمقاربة استرتيجية منذ الثورة، والمبادرة "أرغمت" الجميع على الإصغاء والتجاوب، وحتى الانفعال ورمي المنديل. النهضة في المقابل مطالبة بإعادة صياغة وبلورة وتحيين مبادرتها حسب ردات الفعل وحسب بعض الملاحظات الجوهرية. أولا النهضة مطالبة بتكوين نواة صلبة تجميعية ترتكز على الأحزاب الصغرى وجمعيات المجتمع المدني والفئات الشعبية. بالتوازي وجب ان تواصل في رفع الزخم عن طريق توسيع وتعميق النقاشات وتنظيم الملتقيات والندوات ونشر البحوث والدراسات في الغرض والاعتماد على الشخصيات الوطنية والمفكرين المستقلين حتى من خارج الحقل السياسي. ثانيا النهضة مطالبة بتعديل مبادرتها في اتجاه استيعاب الاعتراضات الموضوعية التي ركز عليها الأستاذ قيس سعيد والمتعلقة بما يتداول حوله ب" التوافق المغشوش" و "إحلال الديمقراطية الحزبية محل الديمقراطية الشعبية" و"مصادرة سيادة الشعب" و"إحلال الشرعية التوافقية محل الشرعية الانتخابية" و"حرمان الشعب من حقه كمصدر السيادة" و"احلال التسويات والصفقات" وغيرها من الشعارات التي وجب ان تحسم وذلك باستيعاب التوجه الشعبي عن طريق الاستبيانات العلمية ذات المصداقية والتي يمكن جلبها من عدة دول، وتكون مشهود لها بالصدقية، على ان تنصب على شخصية مستقلة لتجنب التجاذب والتناحر الحزبي الذي رمى بالبلاد في أتون الفتن لمدة طويلة. النهضة بذلك تكون قد جمعت بين الأحزاب والمنظمات الوطنية والجمعيات والشعب صاحب السيادة، وحتى لا تكون هذه السابقة على أهمية ونبل غايتها مكرسة لحرمان الشعب من حقه الأصيل ليس في الاقتراع فقط بل أيضاً في التقرير. النهضة في كل الحالات قدمت مبادرة وهي بالطبع ليست مسؤولة عن مآلها ولكن وجب ان لا تتخلى عنها وان تواصل فيها وتخلق لها كل أسباب النجاح وتتحرى المخاطر والانحرافات. وهي تكون، ان لم تحقق الهدف ولو انه ليس صعبا، غير ملامة حينها عن دعم الشخصية التي تختارها وفق المناخ الجديد الذي ستخلقه المبادرة. ويكفيها أنها خلقت نقاشا واسعا حول مواصفات الشخصية المطلوبة في رئيس الجمهورية ومتطلبات المرحلة، وخاصة مستوجبات الوحدة الوطنية، التي لا يمكن على أساسها صعود أي شخصية صنعت في رحم النظام النوفمبري وهذا في حد ذاته مكسب عالي القيمة والاعتبار.